نسخة تجريبيـــــــة
الشيخ العلامة محمود خطاب السبكي

«الصوفية قعدوا على الدعائم الأصلية ووقف غيرهم على الرسوم، ومن هنا فازوا فوزًا عظيمًا»

الاسم والنسب

هو الفقيه المحدث المفسر الثقة الثبت ناصر السنة وقامع البدعة، المرشد الإمام الكبير أبو محمد محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السبكي الأشعري المالكي الخلوتي -رضي الله عنه وأرضاه.

وأمه هي السيدة آمنة بنت محمد بن حسين، ينتهي نسبها إلى الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن سيد الشهداء السبط الزكي الإمام أبي عبد الله الحسين ابن سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء البتول رضي الله تعالى عنها، وصلى الله على أبيها المصطفى، سيد الوجود، وعلم الشهود، ومعدن الكرم والجود.

المولد والنشأة

* ولد الشيخ الإمام ببلدة «سبك الأحد» من قرى مركز «أشمون» بمحافظة «المنوفية»، في يوم الخميس التاسع عشر من شهر ذي القعدة عام أربع وسبعين ومائتين وألف من الهجرة النبوية 1274هـ- الأول من يوليو 1858م.

* نشأ الشيخ الإمام بين أبوين طاهرين كريمين، تعهداه بحسن التربية، وغرس فيه والده منذ نعومة أظفاره روح السخاء والشجاعة وعلو الهمة، وتلك مكارم أخلاقٍ تحلى بها هذا الوالدُ العظيم، وقد كان سيدًا في قومه، ذا بسطة في الرزق والجسم، محببًا بين عشيرته وعارفي فضله ونبله.

ولقد أنجب والده ستة ذكور، كل اثنين من سيدة فُضْلى، فكان يبعث واحدًا للتعليم الأولي، ثم لتلقِّي العلم بالأزهر المعمور، ويُبقِي الآخر يعمل معه في مزرعته الفسيحة الخصبة، ويعاونه على أعماله الأخرى. وكان من حظ الشيخ أن يبقى بجانب والده في بحبوحة العزِّ وعظيم الجاه، ولكن غير خامل ولا كَسِل، بل تراه في حداثة سنه يَكِلُ إليه والده رعاية غنمه؛ ليقظته النادرة وعزيمته الوثابة، وحسن سياسته وكياسته، فكان خيرَ حارس لها، وخير قائم على أمرها. ثم عهد إليه مراعاة خيل كان يملكها؛ لما رآه شجاعًا رابط الجأش قوي القلب، فساس الجَموح منها مرة بالشدة وآونة باللين؛ فاستحال ذلولًا منقادًا.

وحذق الإمام كثيرًا غير هذا؛ فلقد أتقن النجارة، والحياكة، وفن البناء، وهو زارع ماهر، صائد لا يخطئ الرماية، يصيب الطائر السريع سابحًا في جو السماء فيخر صريعًا، وفي الليل البهيم يصيد طيورًا معتمدًا على سماع صوتها.

المسيرة العلمية:

بدأ الشيخ حياته مزارعًا أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وبينما هو جالس ذات يوم في بستان أبيه إذ دخل عليه ابن عم له بيده لوح صغير به حروف الهجاء، فاشتاقت نفسه أن يتعلمها، فاتصل بمعلم القرية فكتبها له فقلد الإمام كتابتها، وما أعظم دهشة المعلم حينما رأى خط تلميذه اليافع أحسن من خطه، وما هي إلا أيام تعدُّ على الأصابع حتى صار الشيخ السبكي يُجيد الكتابة والقراءة.

ثم تاقت نفس الشيخ إلى الرحلة لتلقي العلم في الجامع الأزهر المعمور، وبينما هو يناجي مولاه سَحَرًا، جدَّ في الدعاء طالبًا أن يمن عليه المنعم الوهاب بمعرفة العلم ويسهل له طريقه، وما مضى على دعائه أسبوع إلا وقد أُشيع بين الناس أن الحكومة التي كانت لا تجند أولاد العُمد، غيرت طريقتها؛ فأشار الشيخ خطاب -رحمه الله، وهو الأخ الأكبر- على أبيه، أن يأخذه معه إلى الجامع الأزهر؛ ليتمكن من الحصول على شهادة المعافاة من الخدمة العسكرية بانتسابه إلى الأزهر. وهو -أي: الأزهر- إذ ذاك الحرم المكين مَنْ دخله كان آمنًا، وبعد أخذ وردٍّ سافر الشيخ مع أخيه الشيخ خطاب العالم الجليل، وما كادت عينه تبصر السادة العلماء، وبين أيديهم تلامذتهم، حتى تملك هذا المنظر سويداء قلبه، واستولى على مشاعره كلها، وأخذت الآمال تملأ جوانحه حتى فاضت على لسانه؛ إذ فاتحه أخوه الشيخ خطاب في الذهاب إلى أستاذ كبير يُشَار إليه بالبنان (المرحوم الشيخ حسن العدويِّ) وكانت بينهما صداقة وثيقة؛ ليسهل له شهادة المعافاة، فيعود على جناح السرعة إلى والده مخفِّفًا عنه هذا العبء الثقيل من أعماله، إذ كان يقوم بأوفر قسط منها؛ فقال الشيخ محمود هيهات!! وكيف أترك هذه الضالة المنشودة، وهل أضيع على نفسي مأربها وبغيتها؟ لا بد من الانضمام إلى هذه الأسرة الدينية؛ لأكون فردًا منها، ولا بدَّ من الجلوس بين هذه الحلقات العلمية ردحًا من الزمن، مفارقًا تلك الحلقات الريفية، مترحمًا على الأيام الطويلة التي قضيتها بين ذويها وأترابها!!

دهش كل الدهش أخوه؛ إذ يراه قد جاوز العقد الثاني من عمره، فأصبح طلب العلم عليه غير هين؛ وأدرك الشيخ محمود هذا فقال: قد تسبق العرجاء، ﴿وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 105]. ثم أقبل الشيخ محمود على مطلوبه أيما إقبال، فكان في اليوم الواحد يحفظ قسطًا من كتاب الله تعالى، ومقدارًا من المتون الأزهرية على الطريقة المألوفة إذ ذاك، ويتردد على حلقات العلم يتزود منها ما شاء الله، ومضى عليه نصف عام كامل، فهل يدور بخلدك أن هذا التلميذ الناشئ، في مُكنته أن يكون أستاذًا لمبتدئين يتلقون عنه دروس العلم في المساء، ويشرف عليها بعض المعلمين المعجبين بذكاء ابن الريف المتقدم في سنه!! وما زال مجدًّا مواصلًا ليله بنهاره، غير مقتصر على أن يملأ مخيلته بالمسائل العلمية يردِّدها لسانه؛ بل وضع نُصْب عينيه العمل بما يتطلبه العلم، موقنًا أن الطالب لذلك هو الله تعالى ورسوله، شاعرًا أن وراءه أبناء الحلقات الريفية، وهم الذين خيم الجهل عليهم فما يدرون حلالًا ولا حرامًا، وما يفرقون بين وليٍّ ولا نبي!!

وهؤلاء لا بد أن تجمع الأيام بينه وبينهم، فتنقلب هذه الحلقات الدنيوية حلقات دينية، يرى المجتمعون فيها من كان على شاكلتهم أضحى لهم معلمًا، ومعلم هذه الطبقات ترمقه عيونهم، وتصغي إلى قوله آذانهم، فإن عمل بما أرشدهم إليه التفوا حوله وقدسوه، وإن اعوج انفضوا من حوله واحترزوه.

لبث الشيخ يتلقى عن أساتذته الأجلاء بالجامع الأزهر المنير، ويلقي في أوقات فراغه دروسًا شتى على بعض الطلاب، ويرشد أبناء الريف إذا ما رجع إليهم. فكان أزهريًّا بين الأزهريين، وواعظًا مرشدًا بين الريفيين، وما رضي الشيخ أيام طلبه العلم أن يتناول جراية من أوقاف الأزهر، ولا أن يدون اسمه بين دفاتره، وما كان شغله الشاغل إلا التفاني في العلم، والتحلي بالعمل، وهو ثمرة العلم!

وخلال هذه الفترة، أشار عليه أحد تلامذته أن يتقدم إلى الامتحان، لتعليم أبناء الأزهر ومن سواهم، بعد نيله الشهادة كيما يساير الناس؛ وهم يعتقدون أن العلم لا يؤخذ إلا ممن لديه هذه الشهادة، فانشرح صدره ووضع الرسالة وقدمها، وبعد البحث اتضح أن اسمه غير مدرج في سلك الطلاب، ولم تكن له مدة معلومة فلا يقبل طلبه، ولكن الله القدير يَسَّر له الصعاب!! وفي يوم الأربعاء، اليوم التاسع والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف (سنة 1313هـ)- 15 من يناير سنة 1896م أدى الشيخ الامتحان أمام اللجنة المكونة من حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الأجلاء: الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية، والشيخ بكري عاشور الصِّدفي، والشيخ عمر الرافعي -الحنفيين- والشيخ أحمد الرفاعي، والسيد علي الببلاوي –المالكيين- والشيخ محمد حسين الإبريري، والشيخ سليمان العبد –الشافعيين- ولقد كان إعجاب اللجنة به عظيمًا، وسرورها فائقًا، وجاوز الشيخ الميدان ظافرًا منصورًا!!

* لبث الشيخ يدرس بالأزهر بعد نيله العالمية سبعًا وثلاثين سنة من (1313 إلى 1350هـ)، وما ترك الأزهر زهادة فيه، بل حال بينه وبين مواصلة جهاده فيه، إحالة مجلس الأزهر الأعلى له إلى التقاعد بجلسة يوم الخميس الخامس من جمادى الأولى سنة 1350هـ الموافق 17 من سبتمبر سنة 1931م، وإنها لجلسة صارخة روعت فداحتها العالم الإسلامي أجمع؛ إذ بلغ فيها عدد المحالين إلى المعاش والمفصولين من الأزهر والمعاهد الدينية سبعين عالمًا.

لكن الشيخ لم يمل إلى الراحة بعد نصب وطول سهاد كما مال غيره من المعمرين؛ بل ما زال عاكفًا على العمل، في داره بين مسجده الزاهر، ومكتبته العامرة، ومؤلفاته القيمة، وجمعيته الشرعية الميمونة، وتلامذته العديدين الوافدين إليه يغترفون من منهله العذب، ويحيطون به إحاطة الهالة بالقمر في مجلسه الخاص بعد عصر كل يوم، ويعلوهم جميعًا حياء وأدب جمٌ من هيبة الشيخ وجلاله، وما يمنعهم حياؤهم السؤال عن مهمة دينية أو دنيوية، ومن جلس منهم لا يفك حبوته إلا مؤذن المغرب يدعوه إلى الوقوف بين يدي الحي القيوم.

شيوخه:

تلقى الشيخ الإمام العِلْمَ عن كثيرين، من بينهم حضرات أصحاب الفضيلة:

شمس الدين الأنبابي الشافعي.

الشيخ سليم البشري المالكي.

الشيخ أحمد الرفاعي المالكي.

الشيخ إبراهيم الظواهري الشافعي -وهو من عُين آخر حياته شيخًا للجامع الأحمدي قبل النظام الحديث سنة 1312هـ، وتوفي سنة 1314هـ - 1906م.

تلاميذه:

طوال تلك المدة التي قضاها الشيخ الإمام مدرسًا بالأزهر المعمور تخرج على يديه فيها الجم الغفير من تلامذته الأفذاذ النجباء، ومن مشاهيرهم حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الأجلاء:

-الشيخ عبد المجيد سليم، شيخ الأزهر.

-الشيخ فتح الله سليمان، رئيس المحكمة الشرعية العليا سابقًا.

-الشيخ عبد السلام البحيري، عضو المحكمة الشرعية العليا.

-الشيخ علي محفوظ، المدرس بكلية أصول الدين.

-الشيخ سليمان نوار، عميد كلية اللغة العربية سابقًا.

-الشيخ محمود الغمراوي، المفتش بالجامعة الأزهرية.

وغير هؤلاء كثير ممن يدرس بالأزهر والمعاهد الدينية ومدارس الحكومة، وممن يلي مناصب القضاء الشرعي، ومن تلامذته غير الموظفين كثير من العلماء الأجلاء القائمين بالوعظ والإرشاد على سَنن أستاذهم الراحل.

جهوده في الدعوة:

بعد أن نال الشيخ إجازة التدريس عُنِيَ جد العناية في دروسه التي كان يلقيها في الأزهر المعمور وغيره على مئات الطلاب ببيان البدع الفاشية والخرافات المضلة، محذرًا الناس -وبخاصة ذوي العلم- من ارتكابها والسير في طريقها المعوجة، مرشدًا إلى العمل بهدي الرسول الأمين، وصحبه الطيبين الطاهرين، وبهذا تبين لكثير من أهل العلم أن ما يرونه محيطًا بهم من البدع والمنكرات في المساجد وسواها، لا يتفق ومبادئ الدين الحنيف، وأنهم مسئولون أمام الله تعالى بتفريطهم وسيرهم في طرقاتهم، والعامة من ورائهم يعملون ويقدسون كما عملوا وقدَّسوا.

الشيخ السبكي وتأسيس الجمعية الشرعية

في يوم الأربعاء غرة المحرم سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف (سنة 1331هـ) 11 من ديسمبر سنة 1912م قام الإمام بتكوين جمعية، أسماها (الجمعية الشرعية، لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية)، ووضع لها قانونًا محكمًا منظمًا، مواده ترشد إلى عملي الدنيا والآخرة وتدعو إلى الحسنيين، وقد سارت الجمعية على هذا القانون بإشراف مجلس إدارتها تحت رئاسة الشيخ زهاء ربع قرن (من سنة 1331 إلى سنة 1352هـ) وهي تتقدم باطراد كل عام بفضل رجالها الذين صفت نفوسهم، واعتمدوا على بارئهم في جميع شئونهم، يفرون من الكسالى المتعطلين والخاملين فرار السليم من الأجرب، وإذا فتشت بين صفوفهم فلا ترى متسولًا ولا متسكعًا؛ بل ترى كل من انضم إلى هذه الجماعة قد شق لنفسه طريقًا في الحياة يسلكه إلى عمل مشروع، شأن المسلمين في صدر الإسلام.

آثار الجمعية

* في مقدمة آثار هذه الجمعية الناهضة: وعاظها الذين اختارتهم من بين أفرادها المثقفين المدربين؛ للقيام بتعليم العامة أصول الدين وفروعه في دروسهم ومحاضراتهم، لا يفترون عن غرس مبادئ الدين الصحيحة في نفوس إخوتهم المؤمنين، اللين رائدهم، والرفق حليفهم، والموعظة الحسنة ديدنهم، والحكمة وسداد الرأي قبلتهم، سمحاء حنفاء، لا مشددين ولا معسرين ولا متنطعين ولا رجعيين.

* ومن آثار الجمعية التي تغتبط عليها، إنشاؤها المساجد العديدة في مدن الجمهورية وقراها، وفي مقدمتها المسجد الكبير بالقاهرة (في عطفة الشيخ السبكي بشارع الخيمية على مقربة من باب زويلة «بوابة المتولي» وجامع الوزير طلائع بن رزيك الأثري)، وكان الفراغ من بنائه وتنسيقه سنة 1342هـ ، وغير ذلك كثير من مساجد الجمعية المنتشرة في كل أنحاء المعمورة.

ومن آثار الجمعية الميمونة تلك المشروعات التي تقوم بها سواء منها الاجتماعية أو الطبية أو التعليمية، ومن أبرز هذه المشروعات تشغيل أمهات الأيتام وإنتاج وتوزيع الخبز بالمجان وقوافل الخير ومشروع تربية رؤوس الماعز وغيرها الكثير .

مؤلفاته:

للشيخ العديد من المؤلفات نذكر منها:

* أعذب المسالك المحمودية في التصوف والأحكام الفقهية (أربعة أجزاء).

* حكمة البصير على مجموع الأمير، في فقه الإمام مالك (أربعة أجزاء).

* إصابة السهام فؤاد مَنْ حاد عن سنة خير الأنام.

* الرسالة البديعة الرفيعة في الرد على من طغى فخالف الشريعة.

* العهد الوثيق لمن أراد سلوك أحسن طريق.

* النصيحة النونية في الحث على العمل بالشريعة المحمدية.

* سيوف إزالة الجهالة عن طريق سنة صاحب الرسالة.

* المقامات العلية في النشأة الفخمة النبوية.

* السم الفعال في أمعاء فرق الضلال.

* الصارم الرنان من كلام سيد ولد عدنان.

* العَضْب المنظوم للذَّب عن سنة المعصوم.

* الرياض القرآنية في الخطب المنبرية.

* خلاصة الزاد لمن أراد سلوك سبيل الرشاد.

* رسالة البسملة.

* إتحاف الكائنات ببيان مذهب السلف والخلف في المتشابهات.

* المنهل العذب المورود، شرح سنن الإمام أبي داود.

* الدين الخالص، أو إرشاد الخلق إلى دين الحق.

* محور الوصول إلى حضرة الرسول.

التصوف في حياته:

أثار البعض -ممن لم يقف على تاريخ الشيخ وأصل دعوته-  شكوكًا حول صوفية الشيخ، وخلطوا عن قصد أوغير قصد بين شدة تمسك الشيخ بالسنة، وغيرته على شرع الله عز وجل، وبين ما يأتيه الأدعياء والمرتزقة يشوهون به وجه التصوف النضر، وما علموا أن الشيخ بلغ مبلغًا في الطريق أهَّله بأن يقوم مقامًا حاكمًا يدفع فيه تحريف المضلين، وانتحال المبطلين.

فلم يكن شأن الشيخ إنكار التصوف أو الرجوع عنه؛ بل كان شأنه تصحيح أحوال أهل التصوف على الأصول والقواعد، التي قعَّدها الأئمة من قبله، وما أكثر هؤلاء الأئمة الذين صنعوا صنيعه.

وكيف يفارق هذا النبع الزلال، وقد كرع منه منذ الصِّبا، وتخرج فيه قبل أن يتلقى حرفًا واحًدا من العلم الشرعي؟!

ثم رأينا كيف كان تحصيله بَعْدُ بالأزهر، بعد أن وَلَجَ من باب التصوف الرفيع، ووالله ما تنتج الظلمة نورًا؛ فالذي خَبُث لا يخرج إلا نكدًا؛ فهل كان الشيخ كذلك؟ حاشا وكلا؛ بل يَسَّرَ الله سلوكه إليه وأوصله إلى آفاق رحبة.

وتعالوا بنا نراجع حياة الشيخ مرحلة مرحلة، ونراجع كتبه كتابًا كتابًا؛ فهل فيها ما ينبئ عن رجوعه عن صوفيته بعبارة صريحة ونص مُوثَّق؟ أم أن الأمر مجرد دعوى ادعاها من لا خلاق لهم؛ فهم يتحملون كبرها؟!

* لقد سلك الشيخ طريق الله تعالى على يد الشيخ أحمد بن محمد أبي جبل السبكي الخلوتي رحمه الله تعالى.

ولقنه الشيخ الأوراد والأذكار، فاشتغل بذكر الله كثيرًا وجَدَّ في الطاعة، فكان يصوم النهار ويقوم من الليل مقبلًا على مناجاة ربه علام الغيوب في الأسحار، وربما صلى في الليلة مائة ركعة مع كثرة ما لديه من أعمال النهار، فلاحت عليه علامات السعادة؛ ومن ثم أدخله الخلوة، ومن ثم ألبسه الخرقة، فأفعم قلبه بالأنوار، واستنار سره بالأسرار، وصقلت مرآة قلبه بتوالي واردات التجليات العرفانية؛ فعاين الحقيقة كما هي في الحقيقة، ووقف على عرفات المعرفة، وفر إلى الحق مجيبًا إياه: لبيك لبيك لبيك. وأيقن شيخه أن غرسه آتى أُكُله بإذن ربه؛ فأجازه في طريق القوم، فتصدر لإعطاء العهود، وتلقين الأوراد، ونحو ذلك من شئون الطريق، وكان عمر الشيخ يومئذ اثنين وعشرين ربيعًا.

ولم يكتف الشيخ بهذا؛ بل واصل في طريق الله يأخذ عن أئمة الطريق، فأخذ الرفاعية والشاذلية والنقشبيدية والبيومية والأحمدية والإبراهيمية، وغير ذلك من الطرق المشهورة.

مكاشفاته -رضي الله عنه:

هي لا حصر لها، ولكن نكتفي بهذا المثال؛ فلقد حدث أن بارت تجارة رجل وأشرف على الإفلاس، فحدثته نفسه أن يذهب للشيخ فيطلب منه مبلغًا معينًا يستنقذ به تجارته، فلما صلى الفجر معه وسلم عليه بعد الصلاة؛ انعقد لسانه خجلًا أن يسأله، فإذ بالشيخ يقول له: انتظرني، وما هي إلا هنيهة وإذ به ينزل، فيدس في يده مظروفًا، فلما فضه وجد به نقودًا، فلما عدَّها وجدها تمامًا على القدر الذي كان سيطلبه من الشيخ.

   كراماته: 

 الحديث عن صريح كراماته؛ فهو كغيث مدرار، ونكتفي هنا بذكر كرامتين جليلتين:

أولاهما:ما أقسم على حدوثه عالم الجمعية ووليها: الشيخ عبد الفتاح سعد -رحمه الله تعالى- فلقد رأى الشيخ بعد وفاته في منامه وكأنه يزوره في منزله، فأراد أن يقدم للشيخ واجب الضيافة فلم يجد، فإذا بالشيخ يخرج برتقالة فيقسمها نصفين، فيأخذ هو نصفًا ويعطي الشيخ عبد الفتاح النصف الآخر، فانتبه الشيخ عبد الفتاح من منامه؛ فإذا به يجد ذلك النصف من البرتقالة على وسادته إلى جوار رأسه!!

وثانيهما:ما رواه الشيخ العلامة درويش الجعبري -رحمه الله- فلقد التقى بالشيخ الإمام فترة دراسته بالأزهر الشريف، ثم عاد إلى بلدته (مدينة الخليل) بفلسطين، وذات ليلة هزه الشوق إلى مجلس شيخه، فعزم على السفر إليه ولقائه، لكن الحرب قد قامت، وقطعت خطوط المواصلات، فأسقط في يديه، وفي إحدى هذه الليالي إذا بصوت الشيخ يقطع عليه وحدته قائلًا: بلغنا أنك تحب زيارتنا. قال: نعم سيدي. قال: فضع يدك في يدي؛ فإذا هما في مسجد الجمعية الشرعية بمصر في التو واللحظة، فاستكتمه الشيخ ألا يبوح بذلك؛ فما حدَّث بها إلا بعد وفاة الشيخ -رحمه الله تعالى.

من أقواله عن التصوف:

اعلم أن التصوف هو الجد في السلوك إلى ملك الملوك، مع الأخذ بالأحوط من الأحكام ... ولذا قالوا: الصوفية قعدوا على الدعائم الأصلية ووقف غيرهم على الرسوم؛ ومن هنا فازوا فوزًا عظيمًا وبلغوا من الكمالات ما لم يصل إليه غيرهم، ولكن لا سبيل لك أيها الإنسان إلى ذلك إلا بمجاهدة النفس ليلًا ونهارًا بهمة قوية، كما أن التصوف هو الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا وباطنًا، فيرى حكمها من الظاهر في الباطن، ومن الباطن في الظاهر؛ فيحصل من الحكمين كمال لم يكن بعده كمال.

واعلم أن طلب الكمال من أشرف الخصال، والكمال هو التخلي عن الأوصاف الذميمة والتحلي بالأوصاف الحميدة.

* تجرد من الشواغل الدنيوية كلها إن أمكن، أو بقدر ما يمكن؛ لأنك تريد الدخول في حضرة ربك التي هي كناية عن الإقبال التام على الله عز وجل، والإعراض عن كل ما سواه، حتى عن نفسك. وأنت جالس في مكان طاهر مظلم معظم مطيب بالروائح الزكية كجلوسك للصلاة، واضعًا يديك على فخذيك مغمضًا عينيك؛ لأنه بتغميض العينين تنسد طرق الحواس الظاهرة، وسدها يكون سببًا لفتح حواس القلب، لابسًا الثياب البيض الحلال المطيبات بالروائح البهية وكذا الفم والبدن، مبعدًا الراوئح الكريهة -لأن الروحانيين لا يقبلون الروائح الكريهة، وبانقطاعهم عن مجلس الذكر ينقطع المدد، مستأذنًا أهل الطريق ورسول الله صلى الله عليه وسلم والحضرة الإلهية في دخول حضرة الذكر، التي هي حضرة الله تعالى، جاعلًا خيال شيخك بين عينيك؛ ليكون رفيقك في السير إلى الله تعالى لا لكونه مقصودًا لذاته؛ حتى يكون منافيًا للتجرد عما سوى الله، أو يكون إشراكًا في العبادة والعياذ بالله تعالى، خلافًا لما يتوهمه بعض القاصرين؛ فالمقصود هو الله تعالى وحده، واستحضار الشيخ إنما هو لتتحصل على مقصودك؛ لأن الوصول عادة لا يكون إلا بدليل، وإذا وجد الدليل لا يجد الشيطان له مدخلًا معك حتى يحولك عن الطريق؛ ولذا كان استحضار الشيخ من أهم الآداب.

وفاته:

لم تطل حياة الشيخ بعد وداعه الأزهر، إنها لمدة قصيرة: سنتان إلا نحو شهرين في نهايتها يزوره الموت الزؤام، وما اشتكى ألمًا، وما انقطع عن عمله الموصول، ولا عن مجلسه الخاص إلا بعد عصر الخميس الثالث عشر من شهر ربيع الأول عام اثنين وخمسين وثلاثمائة وألف (13 من ربيع الأول سنة 1352هـ)، وفي صبيحة يوم الجمعة الرابع عشر منه، أطل على بعض تلامذته من نافذة حجرته، فناوله آخر ملزمة من الجزء السادس من شرحه لسنن الإمام أبي داود «المنهل العذب المورود»، كان الشيخ يصححها لترسل إلى المطبعة، ولما حان وقت صلاة الجمعة، أخذ القوم يلتفتون يَمْنة ويَسْرة، عَلَّهم يحظون بطلوع الشيخ عليهم متقدمًا إلى الصف الأول، يستمع إلى الخطيب، ويؤدي صلاة الجمعة ويعظهم بعدها كعادته، فما حظوا، وارتد البصر منهم وهو كليل!! وما حسبوا أن فقدانهم الشيخ هذه الساعات، يكون فقدانًا لا رجعة بعده، ولا لقاء إلا يوم اللقاء!!

ففي منتصف الساعة الثانية بعد ظهر الجمعة (14 من ربيع الأول سنة 1352هـ)، (7 من يوليو سنة 1933) لفظ الشيخ آخر نفس من أنفاسه الطاهرة، وجاد بروحه العظيمة الوثابة المتفانية في نصرة الدين والسنة المطهرة، لا يبتغي شهرة ولا أثرة، وكان النبأ مروعًا، وكانت الفاجعة أليمة، والكارثة عظمى، والخسارة غير هينة، وليست على مسلمي مصر فحسب؛ بل على مسلمي الشعوب التي عرفت مكانته، وانطوت قلوبهم على محبته، وعلى العمل بما كان يدعو إليه من خير العمل، وكم كانت دهشة الناس وحيرتهم بهذا النبأ المزعج؛ إذ فقدوا إمامهم ومحط آمالهم، مَن كانوا إليه يهرعون، وبدعوته إلى العمل بالدين الحق يسارعون، وكم كانت آلامهم التي تفتت الأكباد، وتصدع الأفئدة، حينما وثقوا أن الشيخ ينتزع من بينهم انتزاعًا إلى مقره الأخير، بعد أن صلى عليه أكبر أنجاله الكرام الأستاذ السيد أمين، يؤم الجمَّ الغفير ممن وصل إليه النبأ من سكان القاهرة، وهم قُلٌّ من كُثر، من تلامذته ومحبيه المنتشرين في القاهرة وضواحيها وبلدان القطر وغيره من الأقطار الإسلامية.

صلى عليه هذا الجم الغفير في ساحة داره الواسعة بجوار مسجده المعمور، ثم أخذ الناس يتهافتون على حمل سريره كلما مر عليهم، وكنت ترى الشوارع مكتظة تموج بهم موجًا، حتى إن السرير كانت لا تبصره العيون من ازدحام الجموع المشيعة، وكلهم تبدو على وجهه علائم الأسى والحزن!!

واخترقت الجنازة في سيرها شوارع الخيمية، والغورية، والسكة الجديدة، والمشهد الحسيني، والدراسة، وقرافة المجاورين حيث مدفنه رحمه الله.

المراجع:

* «العهد الوثيق لمن أراد سلوك أحسن طريق» للشيخ محمود خطاب السبكي [مقدمة الدكتور محمود الطيب].

* «الدين الخالص» للشيخ محمود خطاب السبكي [ترجمة الشيخ لأبي القاسم إبراهيم.


التقييم الحالي
بناء على 66 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث