نسخة تجريبيـــــــة
الشيخ محمد راغب الطَّبَّاخ

 

(1877ـ1951م)

مولده ونشأته:

ولد محمد راغب الطباخ في حي «باب قنسرين» في حلب عام 1877م،‏فتح عينيه علىالكُتَّاب وفيه بدأ العلم، وحفظ (الطباخ) القرآن الكريم وهو في العامالثامن، وهذا دليل على البيئة المحافظة على الطريق الصحيح في التربية، هذا الرجل الذي نشأ وترعرع في أسرة عُرفت بالورع الديني والتصوف وحب العلم والنبوغ فيه، حيث كان جده هاشم يُقرئ العلوم الدينية في مسجده: العمري، ومسجد الزيتونة، وأبوه محمود كان قد رفض منصب القضاء. ولعل سيرته الذاتية تؤكد هويته الدينية والتربوية والعلمية، ويكفيه أنه كان صادق القول، حسن الخلق والمعاملة, جم المطالعة, أما الاستقامة فحدث ولا حرج.

مسيرته العلمية:

التحقبمدرسة «المنصورية» في حي «الفرافرة»، وأخذ يتعلم اللغتين التركية والفارسية إلا أنهلم يهمل العربية؛ لأنها لغة قرآنه ويتكلمها شعبه, وتعلم القليل منالفرنسية، ونال التحصيل فيها عام 1306هـ، وتابع بعد ذلك تعليمه في المدرسة «الشعبانية»،وفي هذه المدرسة وجد ضالته؛ إذ كان وجهًا لوجه مع رجال الفقه والدين والعلم، وكان منأساتذته ومعلميه محمد رضا, محمد مزية, بشير الغزي، وجميعهم حجة في الفقة والأدبوالعلم، أما ما أخذه الطباخ عنهم فهو كثير، إذ لازمته هذه العلوم طوال حياته؛ لأنه لميكن تلميذًا عاديًّا يهمه الحضور والانصراف من المدرسة، وإنما كان مواظبًا، فلا يفوته درس ولا جلسة علم, أو خطبة فقه، ويذكر الدكتور بكري الشيخ أمينفي بحثه عن الطباخ في الجزء الرابع من كتاب «أدباء من حلب», عددًا من الكتب التيحفظها محمد راغب الطباخ في تعليمه في هذه المدرسة، منها: «الآجرومية» في النحو، و«الجوهرة» فيالتوحيد، و«السُلَّم» في المنطق، و«ألفية ابن مالك»، و« الجوهر المكنون في الثلاثة فنون: المعاني

والبيان والبديع»، وغيرها كثير.‏

شيوخه:

تلقى العلم على يد عدد كبير من الأشياخ في فنون مختلفة  متنوعة، وله ثبت مطبوع، ومن شيوخه:

1- العلامة المؤرخ محمد راغب بن محمود بن هاشم الطباخ الحلبي الحنفي.

2- الشيخ شرف الحق الدهلوي الهندي الجشتي.

3- العلامةمحمد رضا الزعيم الدمشقي.
4- علامة حمص ومفتيها الشيخ محمد خالد العطاسيالأتاسي.

5- العلامة المحدث الشيخ كامل الموقت الحلبي المتوفىسنة 1338هـ.
6- العلامة المحدث الشيخ طاهر بن السيد صالح بن أحمد بن موهوب، الجزائري الأصل، الدمشقي، فقيه السادة المالكية ومفتيهم.

7- العلامة الناسك المحدث محمد بدر الدين الحسني البيباني الدمشقي.

8- العلامة المحدث محمد بن جعفر الكتاني الفاسي، نزيلدمشق.

9- العالم الفقيه المحدث الفرضي محمد كامل الهبراوي الحلبي.

10-السيد محمد عبد الحي الكتاني الحسنيالعلامة الكبير.

11- الشيخ يوسف النبهاني البيروتي.

12- العلامة الكبير الأستاذ أحمد رافع الحسيني القاسمي الطهطاوي الحسيني الحنفيالمصري.

13-العلامة الفقيه المفسر المحدث محمد حبيب اللهالشنقيطي الجكني.

14- العلامة الفقيه المفتي محمد عطا الكسم الدمشقي.

15- العلامة الجليلعبد الستار الصديقي الدهلوي المكي الحنفي.

16-الشيخ العلامة أبو بكر بن محمد عارف خوقير المكي صاحب«ثبت الأثبات الشهيرة».

جهوده العلمية:

 للشيخ محمد راغب الطباخ مكانة عند رجال العلم والفكر والنهضة، وله الأيادي البيض في إنشاء مدرستي «شمس المعارف» و«الفاروقية»، وتطوير مدرسة «الخسروية»، وأدخل في مناهجها علوم الرياضيات والطبيعيات، ثم دخلت هذه العلوم الكثير من مدارس الفترة، منها: «المدرسةالإسماعيلية»، و«المدرسة القرضاية»، ثم «المدرسة العثمانية»، فـ«المدرسة الإشبيلية»، وله دوركبير في توحيد المناهج في التعليم.‏

وفي هذا المجاللا ننسى جميله المتمثل في إصدار قرار جمهوري يسمح للمتخرجين في المدارس الشرعية بدخولكليات الجامعة السورية.

- ومن الجديربالذكر أنه أسس المطبعة العلمية في «خان الحرير» بـ«حلب»، وطبع كلَّ مؤلفاته فيها, كماصدرت كتبٌ لغيره عن هذه المطبعة، ويذكر الدكتورعبد الكريم الأشتر في كتابه «مسامرات نقدية»، الصادر عن دار القلم العربي في «حلب»: أنهأثناء وجوده في جامعة دمشق حمَّله العلامة البيطار كتبه هديةً إلى محمد راغب الطباخ.

- والشيخ الطباخ هو أول من أقدم على نشر اللغة العربية في مدارس «حلب», بعد أن كانت الحروف عربية والنطق تركي الروح واللسان، ولم تقف جهوده عند هذا الحد، وإنما عمل على ترجمة البلاغات والقرارات من التركية إلى العربية، حتى يتمكن العربي من الاطلاع على ما يصدر من الدولة العثمانية.

- هذا، ولم تشمل هذه الدعوة مجالات التعليم فحسب، وإنما كانت دعوة عامة إلى كل المؤسسات الثقافية بما فيها الجمعيات والندوات.

مؤلفاته:

وقد أصدر الشيخ رحمه الله كتبًا نافعات، ما بين مؤلف ومحقَّق، فحاز قصب السبق، وأحيا العربية والأدب في عصره، ومما صدر له:

» أعلامالنبلاء بتاريخ حلب الشهباء» (7 أجزاء).‏

» الأنوارالحلبية من مختصر الألباب الحلبية».‏

» عظة الأبناءبتاريخ الأنبياء».‏

» تمرين الطلابفي الإعراب».

» المطالبالعليا في الدروس الدنيا».‏

» ذو القرنين».

7ـ  «المصابح علىمقدمة ابن الصلاح».

قال عن التصوف:

قال الأستاذ والمؤرخ محمد راغب الطباخ رحمه الله تعالى في كتابه «الثقافة الإسلامية»:

إذا كان التصوف عبارة عن تزكية النفوس وتصفية الأخلاق، فنِعْم المذهب ونعمالمقصد، وذلك هو الغاية من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ففي الحديث عنهعليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». [رواه البخاري في «الأدبالمفرد»، في باب (حسن الخلق)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الإمام أحمد والبيهقيوالحاكم في الترجمة النبوية، وقال: صحيح على شرط مسلم].
وقد تأملنا سيرة الصوفيةفي القرون الأولى من الإسلام، فوجدناها سيرة حسنة جميلة مبنية على مكارم الأخلاقوالزهد والورع والعبادة، منطبقة على الكتاب والسنة. وقد صرح بذلك سيد هذه الطائفةأبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى كما في ترجمته في «تاريخ ابن خلِّكان»، حيث قال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة.
وفي شرح «الإحياء» للعلامة الزبيدي (1/174): قال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلىالله عليه وسلم. وفي ترجمته في «الرسالة القشيرية» (ص19): قال الجنيد: من لميحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا مقيد بالكتابوالسنة. ثم قال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة. وقالالجنيد: علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال سري السقطي:التصوف اسم لثلاثة معان: وهو الذي لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطنعلم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله تعالى.
وفي«شذرات الذهب» (5/279) في ترجمة أبي الحسن الشاذلي، قوله: كل علم تسبق إليك فيهالخواطر، وتميل النفس وتلتذ به، فارم به وخذ بالكتاب والسنة.
ولغيرهم في هذاالباب عبارات كثيرة، تجدها منثورة في كتاب «التعرف لمذهب أهل التصوف» للإمامالكلاباذي، وفي «الرسالة القشيرية»، وغيرهما.
وهؤلاء فوق ما اتصفوا به من تهذيبالنفس والورع والزهد والعبادة، قد قاموا في عصورهم بالواجب عليهم، من إرشاد الخلقإلى الحق، والدعوة إليه، وصدهم الناس عن التكالب على الدنيا وجمع حطامها من أي وجهكان، والاسترسال في الشهوات والملذات مما يؤدي إلى الانهماك في المحرمات، والغفلة عنالواجبات وما خُلق الإنسان له، وتكون نتيجة ذلك انتشار الفوضى وظهور الفساد، وكثرةالبغي والهرج، فكان هؤلاء بوعظهم وإرشادهم، والحِكَم والحقائق التي انفجرت من ينابيعقلوبهم، هم حراس الأخلاق، والآخذين بيد الأمة إلى مناهج الحق وسبل الرشاد، والدعاة إلى السعادة الحقيقية، وهي قيامالإنسان بجميع ما أُمر به مع عدم نسيانه نصيبه من الدنيا، فكانوا في جملة السامعينفي هذه الأمة والمجيبين لقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرونبالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 104(
فسلف الصوفيةهم أعلام الملة وسادة الأمة، وسراجها الوهاج ونورها الوضاح، وبهم وبأمثالهم منالمحدِّثين والفقهاء، اهتدت الأمة الى الصراط المستقيم، وسلكت المنهاج القويم، وانتظمتأحوال معاشهم، وصلحت أمور معادهم، وفازوا فوزًا عظيمًا.
واذا تتبعنا آثارالصوفية وتراجمهم، نجد أنه ربما كان للواحد منهم أتباع يعدون بالألوف،كلما انتسب إليه شخص آخى بينه وبين سابقيه، فتمكنت بين أتباعه والمنتسبين إليهأواصر الألفة وروابط المحبة، وتواصوا فيما بينهم، وتواصلوا بالحق، وعطف غنيُّهم علىفقيرِهم، ورحم كبيرُهم صغيرَهم، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، وصاروا كالجسد الواحد،وكانوا في منتهى الطاعة والانقياد لشيخهم، يقومون لقيامه، ويقعدون لقعوده، ويمتثلونأوامره، ويتبادرون لأدنى إشاراته.
ومن جليل أعمال الصوفية وآثارهم الحسنة فيالأمة الإسلامية: أن الملوك والأمراء متى قصدوا الجهاد، كان الكثير من هؤلاء بإيعازوبغير إيعاز، يُحرِّضون أتباعهم على الخروج إلى الجهاد. ولعظيم اعتقادهم فيهم وانقيادهم لهم، كانوا يبتدرون إلى الانتظام في سلك المجاهدين، فيجتمع بذلك عدد عظيممن أطراف ممالكهم، وكثيرًا ما كان أولئك يرافقون الجيوش بأنفسهم، ويدافعون ويحرضون؛فيكون ذلك سببًا للظفر والنصر.
واذا تتبعت بطون التاريخ وجدت من ذلك شيئًا كثيرًا، على أننا لا ننسى أن مثل هذا العمل قد كان في كثير من المحدِّثين والعلماءالعاملين.
ومن آثار الصوفية، أنه إذا حصل اختلاف بين الناس في أمور دنياهم،وخصوصًا بين إخوانهم المنسوبين إليهم، فإنهم يرجعون إلى شيخهم، فيفصل بينهم بما أنزل الله، ويعودون وهم راضون، ويستغنون عن الترافع الى الحكَّام لفصل ما بينهم منالخصومات.
وهذا مما شاهدناه بأعيننا وسمعناه بآذاننا في أوائل هذا القرن من بعضبقاياهم، بل كان بعض الناس يُنْذِر أخاه بالشكوى الى الشيخ إن لم ينصفه؛ فيعود هذا الىحظيرة الحق، خشية أن يبلغ الشيخ عنه شيئًا، وهو يحرص أن تبقى سمعته لديه طيبة وسيرتهحسنة.

وفاته:

توفي الأديب المؤرخ الشيخ محمد راغبالطباخ، صباح يوم الجمعة 25 رمضان 1370هـ، بعد أن عانى شهورًا من داء النقرس. رحمه الله رحمة واسعة.

 


التقييم الحالي
بناء على 106 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث