اسمه ومولده:
أبو الحسن سَرِيُّ بن مُغَلِّسِالسَّقَطِيُّ، بغدادي المولد.
كان إمام البغداديين وشيخهم في وقته ملازمًا بيتَه لا يخرج منه إلا للجمعةِ والجماعةِ،ولا يراه في غيرهما إلا من يقصده طلبًا لسلامة دينه وإراحة لقلبه وبدنه. ،وهوخال الجُنَيْد، وأستاذه.
أشياخه وتلاميذه:
أخذ عن الكرخيوكان تلميذه،وسمع الحديث من الفضيل.
وروى عنه الجنيد وأبو العباس بن مسروق، وهو أول من أظهر ببغداد لسان التوحيد، وتكلم في الحقائق والإرشادات. وكان أوحد زمانه في الورع وأحوال السنة وعلوم التوحيد.
مهنته:
عن ابن مسروق قال: بلغني أن السري السقطي كان يتَّجِرُ في السوق، وهو من أصحاب معروف الكرخي، فجاءه معروف يومًا، ومعه صبي يتيم، فقال: اكْسُ هذا اليتيم، قال سري: فكسوته، ففرح به معروف، وقال: بَغَّض الله إليك الدنيا، وأَراحك مما أَنت فيه. فقمت من الحانوت وليس شيء أبغض إليَّ من الدنيا. وكل ما أنا فيه من بركات معروف.
من أقواله:
لا تكمل المحبة بين اثنين حتى يقول كل للآخر: يا أنا.
يا عجبًا لضعيف كيف يعصي قويًّا.
احذر أن تكون ثناءً منثورًا.
ويُحكى عن السري أنه قال: التصوُّف: اسم لثلاثة معانٍ(أي: ومن قامت به هذه المعاني فهو الصوفي): وهو الذي لا يطفئ نورُ معرفته نورَ وَرَعِهِ،(يقول العروسي: والمعنى أن نور المعرفة الذي من جملته علم ويقين لا يُطْفِئُ نور الوَرَع المفيد للاجتهاد وبذل الوسع في الطاعة والعمل، فلا يجوز ترك العمل والاعتماد على ما سبق به القضاء) ولا يتكلم بباطنٍ في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب أو السنة، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله.
عن الجُنَيْد -رحمه الله- أنه قال: سألني السري يومًا عن المحبة، فقلت: قال قوم: هي الموافقة، وقال قوم: الإيثار، وقال قوم: كذا، وكذا، فأخذ السري جلدة ذراعه، ومدها، فلم تمتد، ثم قال: وعزَّته تعالى لو قلت: إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت. ثم غشي عليه، فدار وجهه كأنه قمر مُشْرِقٌ، وكان السري به أُدْمَةٌ.(أي:سُمْرَةٌ).
بالغ السري رحمه الله في تعليم التلامذةَ اكتساب الأحوال والمقامات بأنواع المجاهدات ولا يقنعون بمجرَّد الأقوال والركون إلى الراحات ، وذلك أن من قَوِيَت محبتُه في شيء جدَّ في تحصيله ، وأزال ذلك نومَه وأطال سهره وهمه وغمَّه ،وقل طعامه وشرابه ،فيبس جلده على عظمه من توالي ذلك على قلبه ، ففعل السريُّ ما فعل وغلَب عليه الحال لكمالِ الوقت الذي أقسمَ فيه ، فغُشِي عليه وظهرت آثار صدقِه على وجهِه، فنار وجهه كأنه قمرٌ مشرق، فالتأديبُ بالحالِ أكملُ منه بالمقال.
قال القشيري: وفيه جواز إظهار المشايخ الصفات المحمودة والنطق بها لتلامذتهم؛ ليكمل اقتداؤهم بهم.
ويُحكى عن السري أنه قال: منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار من قولي: «الحمد لله» مرة. قيل: وكيف ذلك؟ فقال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني رجل، فقال لي: نجا حانوتك. فقلت: الحمد لله. فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت، حيث أردت لنفسي خيرًا مما حصل للمسلمين. إذ كان حقُّه أن يغتمَّ لهم، فلما فاته ذلك استغفر الله من غفلته كلما تذكرها.
أخبرني به عبد الله بن يوسف قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت السري يقول ذلك.
ويُحْكَى عن السري أنه قال: أنا أنظر في أنفي في اليوم كذا وكذا مرة، مخافة أن يكون قد اسود، خوفًا من الله أن يُسَوِّدَ صورتي لِما أتعاطاه.(أي: من التقصير في كمال التعظيم لله. لا من المعاصي).
وعن الجُنَيْد قال: سمعت السري يقول: أعرف طريقًا مختصرًا قصدًا إلى الجنة: فقلت له: ما هو؟ فقال: لا تسأل من أحد شيئًا، ولا تأخذ من أحد شيئًا، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحدًا.
وعن الجُنَيْد قال: سمعت السَّرِيَّ يقول: أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد، فقيل له: ولِمَ ذلك؟ فقال: أخاف ألا يقبلني قبري، فأفتضح.
قال القشيري: قاله اتهامًا لنفسه ، وقد كان مستورَ الحال بين الناس في الدنيا فأحب أن يسترَهُ عنهم في الآخرة . ويحتمل أن يكون أحب حفظ قلوب العامة من أن يسوءَ ظنهم بالصالحين فلا ينتفعوا بهم ، فإنهم إذا رأوا من اشتهر بالصلاح لم يقبله قبرُه دلَّهم ذلك على خبثِ باطِنِهِ فيسوءُ ظنُّهُم بأمثاله.
وعن الجُنَيْد قال: سمعت السري يقول: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بِذُلِّ الحجاب.
قال الأنصاري: أراد بالحجاب الجهل والضلال، أو كل ما يشغل العبد عن الحق، ومِنْ أَكْشَفِ الحجب حجاب الدنيا، والخلق، والشيطان، والنفس.
وعن الجُنَيْد قال: دخلت يومًا على السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ وهو يبكي، فقلت له: ما يُبكيك؟ فقال: جاءتني البارحة الصبيّة فقالت: يا أبتِ، هذه ليلة حارة، وهذا الكوز أُعلقه هاهنا. ثم إني حملتني عيناي فنمت، فرأيت جارية من أحسن الخلق قد نزلت من السماء، فقلت: لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يشرب الماء المُبَرَّد في الكيزان، فتناولت الكوز فضربت به الأرض فكسرته. قال الجُنَيْد: فرأيت الخزف لم يرفعه ولم يَمَسَّهُ، حتى عَفَاعليه التراب.
قال القشيري: وذلك تنبيه للسري على الإعراض عن الشهوات العاجلةِ، ومنها شربُ الماء المبرَّد، وذلك ليتفرغَ قلبُه، ويحسن أدبه مع الله.
و نقل عنه الجنيد-: اعتللت بطَرَسُوس بعلة القيام، فعادني ناسٌ من القُرَّاء، فأطالوا الجلوس، فقلت: ابسطوا أيديكم حتى ندعوا، فقلت: اللهم عَلِّمْنا كيف نعود المرضى؟ فعلموا أنهم قد أطالوا، فقاموا.
الوفاة:
ببغداد، مات السري سنة سبع وخمسين ومائتين. قال الشيخ السراج بن الملقن: والأصح سنة ثلاث وخمسين ومائتين ودفن بالشُّونِيزية.
وعن الشيخ أبي عبد الرحمن السلمي -رحمه الله- قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر الأَنْمَاطِيَّ يقول: سمعت الجُنَيْد يقول: ما رأيت أعبد من السري؛ أتت عليه ثمانٍ وتسعون سنة ما رُئِيَ مُضْطَجِعًا إلا في علة الموت.
رضي الله عنه ونفعنا به آمين.