«التصوف هو ترميم بناء الباطن بعد أن تحطم الإنسان من داخله»
الاسم والنسب:
هو العالم الموسوعي، الداعية القطب، المجاهد الكاتب، الخطيب الشاعر المحاضر، المعتصم بالله (السيد محمد زكي بن إبراهيم الخليل بن علي الشاذلي)، وكنيته: (أبو البركات)، ولقبه: (زكي الدين)
ولد الإمام الرائد في أسرة كريمة؛ فوالده: القطب الشريف الحسيني (السيد إبراهيم الخليل بن علي الشاذلي)، ووالدته: الشريفة الحسنية (السيدة الزهراء فاطمة النبوية)، بنت القطب الأكبر الشيخ (محمود أبو عليان الشاذلي)، وللشيخ ولدان وبنت، وكلهم متزوجٌ وله أولاد وبنات.
المولد والنشأة:
* ولد - رحمه الله - في القاهرة بمنزل والده، بحي بولاق أبو العلا، وتاريخ مولده حسب ما هو مدون في أوراقه الرسمية: 22/8/1916م، فيكون قد قضـى من العمر في هذه الحياة الدنيا 82 عامًا، إلا أنه قد وُجد بخطه - رحمه الله: أن مولده كان في 22/8/1906م، فيكون عمره الفعلي (92) عامًا، قضاها في جهاده ودعوته، في علم وعمل.
* ووالد الشيخ هو العالم الأزهري الشيخ إبراهيم الخليل بن علي الشاذلي، صاحب كتاب «المرجع: معالم المشروع والممنوع من ممارسات التصوف المعاصر»، وله سلسلة مقالات نشرت في جريدة «الإخوان» سنة 1932م، كما أن له بعض المقطوعات من الشعر الروحي الرائق، وقد جمعت مع نبذة عن حياته وطبعت في رسالة مطبوعة.
* وجَدُّ الشيخ لأمه هو الشيخ محمود أبو عليان، أحد شيوخ الطريق، وهو من العلماء المجددين، تتلمذ على يد الشيخين الجليلين: الشيخ حسن العدوي الحمزاوي، والشيخ عليش، شيخ مالكية عصره، وقد أثنى عليه ومدحه، وقد ترجم له الدكتور عبد المنعم خفاجي في كتابه عن التصوف.
* وكان لهذا الجو العلمي الذي نشأ فيه الإمام الرائد الأثر البالغ في تكوين شخصيته الصوفية والعلمية.
المسيرة العلمية:
* نشأ شيخنا في هذا الجو العلمي الصوفي الأزهري مما كان له أكبر الأثر في تكوينه العلمي والروحي، فتلقى العلم ابتداءً على يد والده.
* وحفظ القرآن على يد الشيخ جاد الله عطية، في مسجد السلطان أبي العلاء، والشيخ أحمد الشريف بمسجد سيدي معروف، وكان حينئذ ما بين التاسعة والعاشرة من عمره.
* التحق بمدرسة (درب النشارين الابتدائية)، وكانت المرحلة الابتدائية حينئذ توازي المرحلة الإعدادية الآن، ثم انتقل منها إلى مدرسة (نهضة بولاق الكبرى) وكانت من أشهر المدارس في ذلك الوقت.
* التحق بالأزهر الشريف، فأخذ فيه المرحلة الثانوية، ثم استكمل الدراسة إلى أن حصل على العالمية، وكان ذلك في الفترة ما بين 1926 إلى 1930م.
ويتحدث الشيخ عن اختبار العالمية فيقول: «كنا يوم الامتحان نصلي الفجر في مسجد الإمام الحسين - الطالب واللجنة - ونحضر درس الشيخ السمالوطي بعد الفجر، وكان يحضره العلماء باعتبارهم تلاميذًا للشيخ، ثم ننتقل لصلاة الضحى في الأزهر الشريف، وتذهب اللجان إلى الرواق العباسي في عدة غرف، في كل غرفة لجنة، ويدخل الطالب ومعه أوراقه وكتبه التي تم تعيين الامتحان فيها، وكان رئيس اللجان هو الشيخ عبد المجيد اللبان - رحمه الله، وظللت أمام اللجنة حتَّى أذان العصر، وعند ذلك ختم الامتحان بالصلاة الشافعية: (اللهُمَّ صلِّ أفضل صلاة على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمد وعلى آله.. إلخ) وكان الختم بهذه الصيغة إيذانًا بنجاح الطالب وحصوله على العالمية الأزهرية ...
وأذكر أنهم حدَّدوا لي في علم البيان: «تحقيق الخلاف بين السعد والسيد، في الاستعارة المكنية» السعد التفتازاني والسيد الجرجاني .. وفي النحو: «باب المبتدأ والخبر»، وفي التفسير آية: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات...} الآية.
وخلال هذه الفترة اعتنى الشيخ - رحمه الله - بكتاب الله تعالى، وتفاسيره، وكتب إعرابه ومعانيه، وقراءاته، وعلومه بأنواعه، وقد ظهر أثر ذلك واضحًا في حياته: خطابةً وتدريسًا وتأليفًا وفتوى وإرشادًا.
شيوخه وتلاميذه
* الشيوخ:
* والده: الشيخ إبراهيم الخليل بن علي الشاذلي.
* الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي.
* الشيخ علوي بن عباس المالكي الحسني.
* الشيخ أحمد الصديق الغماري.
* الشيخ عبد الله الصديق الغماري.
* الشيخ محمد زاهد الكوثري، نائب عام شيخ الإسلام بتركيا، قبل الانقلاب على الخلافة العثمانية.
* الشيخ أحمد عبد الرحمـن البنا.
* الشيخ المُعمر السيد محمد عبد الله العربي العـاقوري الليبي المصري.
* الشيخ إبراهيم الغلاييني الدمشقي.
* الشيخ حسن حبنكة الميداني السوري.
* الشـيـخ الببـلاوي المصـري.
* الشيخ حسنـين مخلوف المفتي المصري.
* الشيخ الحسيني أبو هاشم الأزهري المصري.
* الشيخ المبشر الطرازي، مفتي البلقان وآسيا الوسطى قبل الشيوعية.
* الشيخ يوسف الدجوي المصري.
* الشيخ محمد بخيت المطيعي المفتي المصري.
* الشيخ محمد الحافظ التجاني.
* الشيخ أحمد عبد الجواد الدومي.
* الشـيخ الخضر حسين المغربي، من شيوخ الأزهر.
* الأمـيـر عبد الكريم الخطابي، مجاهد المغرب.
* الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف الأزهري، من علماء الحديث بمصر.
وقد روى الشيخ عنهم بأسانيدهم المحررة بأثباتهم، عن أشياخهم عمومًا بمروياتهم من التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والمنطق، والسيرة، والمصطلح، وعلم الرجـال والتوحـيد، وعـلوم القرآن، والعقائد، وفروع اللغة العربية، والثقافة العامة، والتصوف الصحيح، وخصوصًا كتب القشيري والغزالي والسهروردي، وغيرهم.
* رحلة الشيخ مع القرآن الكريم:
بدأت رحلة الشيخ محمد زكي إبراهيم - رحمه الله - مع القرآن الكريم منذ صغره، فقد كان يحافظ عليه قراءة ودرسًا ومدارسة، وكان مجلسُ درسِه - رحمه الله - مليئًا بفرائد الفوائد القرآنية النادرة، قلما ذكر حادثة أو حكمًا أو موعظة إلا ودليلها من كتاب الله تعالى في المقدمة، وكثيرًا ما تجد بين ثنايا دروس فضيلة الإمام الرائد من الفوائد العظيمة والمعاني الشاردة الجليلة.
وكان -رحمه الله تعالى- يحثُّ على المحافظة على الورد القرآني اليومي، وتفصيله:
1 - قراءة ما تيسر من القرآن يوميًّا، ولو آيات قليلة، حتى يختم القرآن، ثم يبدأ فيه من جديد، وهذا شأن الحالِّ المرتحل كما ورد في الحديث الشريف.
2 - قـراءة سـورة {الواقـــعة} بـعد صلاة الفجــر، و{الرحــمن} بــعد العـصر، و{يـس} بـعد المغـرب، و{الملك} بعد العشاء، و{الدخان} ليلة الجمعة، و{الكهف} يوم الجمعة، وقد فصَّل دليل قراءة هذه السور وفَضْلَها في كتابه: «أصول الوصول» وفي غيره من كتبه -رضي الله عنه.
3 - قراءة السور والآيات ذات الخصائص، والفضل العظيم، والأجر الكبير، مما ورد فيها أنها تعدل ثلث القرآن أو ربعه، كسورة الإخلاص، والكافرون، والزلزلة، وآية الكرسي، وخواتيم البقرة، ونحو ذلك.
فكلُّ هذا من السنن المؤكدة، والمستحَبَّات، والفضائل، ممَّا هو ضروري للسالك إلى الله تعالى، المترقي في درجات الكمال، بعد محافظته على الفرائض والواجبات، وأدائها على أكمل وجه في أوقاتها، إذ لا بـد للسالك إلى الله من معرفة مراتب الأعمال، وأن يكون فقيهًا بالأولويات، عليمًا بالضروريَّات، فلا يهتم بالفروع ويترك الأصول، ويقضي وقته في النوافل مع إهماله الواجبات، فيكون كمن يزين جدارًا هشًّا لا أساس له، يوشك أن ينهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفضلًا عن اهتمام شيخنا - رحمه الله - بالقرآن في مجالس علمه، فقد كان - رحمه الله - كثير التلاوة له، يحث على مجالس تلاوته ومدارسته، فعمرت مساجده بالمجالس القرآنيَّة تلاوةً وتحفيظًا، وتعليم أحكام التلاوة، كما اهتم بالكتاتيب، وحثَّ عليها.
* اهتمام الإمام بالحديث الشريف:
اهتمَّ الإمام الرائد اهتمامًا خاصًّا بتلقي علم الحديث (رواية ودراية) على يد الشيوخ الرواة المحدثين، في وقت قلت فيه رواية الحديث.
ونجد اهتمام الشيخ - رحمه الله - بالحديث (رواية ودراية) واضح المعالم في مؤلفاته، وقد نقل عنه الشيخ الحسيني هاشم، والدكتور أحمد عمر هاشم، في كتابهما «المحدثون في مصر» أن أكثر مؤلفاته على طريقة أهل الحديث، وانظر لذلك مثلًا رسالته في «ليلة النصف من شعبان» ورسالته في «الحديث الضعيف».
ولم يتصدر شيخنا - رحمه الله - لإعطاء الإجازة بالحديث إلا لنفرٍ يسير من كبار العلماء في العالم الإسلامي، فلمَّا كانت سنة 1414هـ استجازه عدد من العلماء والطلبة فامتنع، فلمَّا كثر الإلحاح عليه، طبع إجازته الحديثية، وأجاز طلابه، وكل من استجازه، وأجاز أهل عصره إجازة عامَّة، كما هو معروف عند أهل الحديث والأثر.
وقد استجازه بعد ذلك مئات من المشتغلين بعلم الحديث النبوي الشريف، من أساتذة الأزهر وشيوخه بمصر، وأساتذة الجامعة الإسلامية والجامعات بالسعودية، وأساتذة جامعة آل البيت بالأردن، وجامعة الأحقاف باليمن، وجامعة القرويين بالمغرب، وغيرها من الجامعات العربية وغيرها في أنحاء العالم الإسلامي والدعاة بالمراكز الإسلامية بالغرب، فأجاز الجميع، حتى إنه طبع إجازته بالمرويَّات عدة مرات في فترة وجيزة.
** ومع كل ذلك الاهتمام بالقرآن الكريم والحديث الشريف، لم يقل اهتمام الشيخ بالفقه واللغة وبقية العلوم الأزهرية الأخرى؛ فقد كان - رحمه الله - فقيهًا لا يشق له غبار، حنفي المذهب، كما أخبر بذلك عن نفسه.
وقد ضمَّن كتابه «الفروع الخلافية» نظرته إلى الخلاف الفقهي بين الأئمة، ووجوب احترامهم جميعًا، وقد وضح ذلك تمامًا في بحوثه الفقهية وفي فتاويه. وانظر –مثلًا - كتابه في الصلوات النافلة، وكتابه «معالم المجتمع النسائي في الإسلام».
*الأدب في حياة الشيخ:
الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم من جيل الرواد الأوائل من شعراء هذا العصر، فقد عاصر شوقي وحافظ والعقاد والرافعي والزيات، وكان له معهم صولات وجولات، وقد ألَّف خمسة دواوين شعرية في نحو خمسة عشر جزءًا من الشعر العمودي المقفى، في أغراض الشعر المختلفة، وقد طبع من هذه الدواوين:
1) «ديوان البقايا» الجزء الأول، وهو في عدة أغراض شعرية، ولكن يغلب عليه الطابع الصوفي، وشعر الزهد والتأمل.
2) «ديوان المثاني» الجزئين: الأول والثاني، وهو في شعر الحكمة، إذ كل بيتين منه وحدة موضوعية قائمة بذاتها، تدل على معنًى وضعت له.
3) «هشيم المحتظر».
4) «الحصائد».
ويحتويان على شعر الشيخ في صدر شبابه، في شتى الأغراض والموضوعات، ففيهما الشعر الديني والاجتماعي وشعر الشباب، وقد نشرت بعض قصائدهما في مجلة «أبولو» وغيرها، وقد رجع الشيخ -رحمه الله- عن بعض ما قاله فيهما، وأمر أن يلحق ما تركه فيهما من شعر وما تناثر من شعره في الأوراق، ما كان من باب الزهد والتصوف إلى «البقايا»، وما كان من المثاني إلى «المثاني»، وما كان من شعره من باب الوجد والمنازلات الروحية يجمع في ديوان خاص سماه: «لحظات التجلي».
وقد كان للشاعر حلقة شعرية إسلامية، ألَّفها من كبار الشعراء الإسلاميين، منهم: الدكتور حسن جاد، والأستاذ قاسم مظهر، والأستاذ محمود الماحي، والأستاذ عبد الله شمس الدين، والدكتور سعد ظلام، والأستاذ ضيف الله، والأستاذ الربيع الغزالي، والأستاذ شاور ربيع، والأستاذ محمد التهامي، والأستاذ أحمد عبد الخالق، واللواء رائف المعري، وغيرهم.
كما أن للشيخ مقالات أدبية ونقد أدبي رائق في مجلة «أبولو» و«الفجر» و«النهضة الفكرية»، لعل من أهمها ما كتبه في نقد الأستاذ (أبي حديد) في الشعر الحر أو المرسل، ولا ننسى ما انتقد به الزيَّات في سلسلة مقالاته: (مشاغبات الأسبوع) التي نشرتها له جريدة «الإخوان» في عهدها الأول سنة 1932م.
* الشيخ والثقافـة المدنية:
* تعلم الشيخ - رحمه الله - الإنجليزية في المرحلة الابتدائية.
* وتعلم الفرنسية على يد الأستاذ داود سليمان، من أعيان أسيوط.
* وتعلم الألمانية بالقاهرة على يد الأستاذ راغب والي، وكان مدرسًا بالمدرسة الألمانية بالقاهرة، وقد ترجم الشيخ بعض قصائد الشاعر الألماني (هايني رش هايني) من الألمانية إلى العربية.
* وتعلم الفارسية على يد الشيخ محمد الأعظمي الإيراني، عضو جمعية (الأخوة الإسلامية)، وترجم عددًا من قصائد (إقبال) إلى العربية، بعضها منشور بمجلة «أبولو».
وعندما اتهم بعضهم الشيخ بأنه شيخ أزهري (معمم ومقفطن) لا يدري من علوم الدنيا شيئًا؛ إذا بالشيخ يرد عليه بما نصُّه:
«كتب إليَّ كاتب، يُعَنفني بأنني أحبس نفسي في قمقم التصوف، وأتقوقع في صدفة التدين المتأخر، وأعيش متخلفًا في عصور الجمود الماضية، بينما نحن في عصر تقدمي متحضر لم تعرفه دنيانا من قبل ... إلخ. والذي أحب أن يعرفه هذا الأخ وأمثاله، أنني وأنا رجل معمَّم مقفطن لا أزال أثقف نفسي، وأزودها بكل ثقافة من المشرق أو المغرب، باحثًا عن الحكمة، جاريًا وراء الحقيقة، كلما أذنت لي صحتي وأوقاتي وقدرتي.
فكما أقرأ تاريخ الإسلام والفلسفة وتدرج المذاهب، ونشوء الفرق والنحل، وأتابع الصوفية والسلفية، وتطور تاريخ المسلمين، وأتابع أدباء العرب وقصَّاصيه وناقديه ومهرِّجيه ومفسديه.
كذلك أدرس ملامح الفن القوطي وتدرجه إلى الريسانس، إلى الكلاسيكية القديمة فالجديدة، إلى الرومانتيكية، إلى التأثرية، إلى الواقعية، إلى الرمزية، إلى الالتزامية، إلى التجريدية، حتى بيكاسو في التصوير، وأندريه في الأدب، واسترافنسكي في الموسيقى !!.
وأنا أقرأ لشكسبير، وبوب، وشيلي، وبيكون، وهيجل، وفلامريون، وجيته، ونيتشه، إلى سارتر، وسومرست موم، وبرتراند راسل، وأقرأ كذلك لرونسار، وفارلين، ورامبو، وبودلير، وأفرق بين لوحات جنيسبورو، ورينو لدزر، وأميز في مدارس الموسيقى بين صامويل جونسون، وبوالوا، إلى كل ما يتعلق بفن المسرح والسينما ... إلخ.
فلست بـمقمقم ولا مقوقع ولا جامد، ولا متخلف بحمد الله، إنني أعيش في عصري مندمجًا فيه ثقافة ودعوة ومعاشًا، غريب عنه أخلاقًا وعبادة واتجاهًا، ولكن على قدر مقدور لا بد منه للدعاة إلى الله».
هذا ما كتبه - رحمه الله - مما يوضح جوانب ثقافته المدنية، التي حصل على قسط وافر منها، ومع ذلك لم ينجرف مع تلك التيارات أو هذه؛ بل انتقى من تلك الثقافات ما تقره الشريعة الإسلامية، ويفيده في دنياه وآخرته، واكتفى بمعرفة (غير المفيد) من باب الثقافة فقط، أو من باب (معرفة الشر لتوقِّيه). وقد حارب الفلسفات الغريبة وسيء هذه المعارف والثقافات بلسانه وقلمه.
* مناظرات ومساجلات علمية:
كان للشيخ - رحمه الله - مناظرات ومساجلات مع بعض معاصريه من الشيوخ والعلماء، ممن اختلف معهم في الرأي، والاختلاف طبيعة بشرية، وقد كان الشيخ - رحمه الله - قويَّ الحجة، طوَّع الله له اللغة والبيان، كما كان ملتزمًا أدب العلم والمناظرة في كل ذلك، وليس أدلَّ على ذلك من رفضه نشر خطاب يسيء لبعضهم بخط يد ذلك البعض، وكان قد سبق إلى الله، فأبى وقال: إن حرمة الموت تمنعني من نشره وإن كان ما فيه حقًّا إلا أن فيه إساءة كبيرة له.
ولعل أشهر هذه المناظرات ما كان بينه وبين الداعية الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- حول عبادة الرغبة والرهبة؛ تلك المناظرات التي استمرت ستة أشهر على صفحات «الأخبار» و«المسلم» و«لواء الإسلام»، وشارك فيها الصحفي أحمد سالم، والدكتور عبد الحليم محمود، والشيخ محمد خليل هراس، والشيخ محمد عبد الهادي العجيل.
ومن المناظرات والمساجلات أيضًا ما كان بينه وبين الشيخ عبد الرحمن الوكيل، والدكتور سيد رزق الطويل، والدكتور إبراهيم هلال، والأستاذ حسن قرون، وغيرهم، وفي كل تلك المناظرات التزم الشيخ - رحمه الله - الأدبَ الصوفيَّ الرفيع، والبحث العلمي النزيه والحجة المقنعة.
كما أنه انتقد عددًا من العلماء ورد عليهم؛ فانتقد الشيخ عبد الجليل عيسى؛ لما كتبه في كتابه «اجتهاد الرسول»، ورد عليه في كتاب «عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم» الذي كان أول رد على ما نشره أحمد صبحي منصور، وقد فُصِلَ هذا المارق من الأزهر الشريف.
المسيرة العملية:
بعد أن حصل الشيخ -رحمه الله- على العالمية الأزهرية تقدم للتدريس بالمدارس الأميرية بمحافظة بني سويف، وظل هناك مؤديًا عمله عدة سنوات، ثم عاد إلى القاهرة مدرسًا أيضًا.
* وظل يتدرج في وظائف التعليم المختلفة، حتى أصبح رئيسًا للسكرتارية العامة للتعليم الحر، المسمى بالتعليم الخاص الآن، ثم عين مفتش قسم، وكان القسم وقتها يعني القسم الإداري.
* عمل أيضًا: أستاذًا ومحاضرًا للدراسات العليا بالمعاهد العالية ومعهد الدراسات الإسلامية ومعهد إعداد الدعاة.
* حاضر أيضًا بالدراسات العليا في بعض الكليات الأزهرية، ودورات إعداد الأئمة والوعاظ والبعوث الإسلامية.
* عمل بعض الوقت مديرًا لمؤسسة (الزفاف الملكي)، والتي سميت بعد الثورة (مؤسسة البر الأميرية).
* كان أمينًا عامًّا لجمعيات الشبان المسلمين ومرشدًا دينيًّا.
* هو رائد العشيرة المحمدية ومؤسسها.
* مؤسس مجلة «المسلم»، (المجلة الصوفية الأولىٰ في العالم الإسلامي).
* مؤسس معهد إعداد الدعاة (أول معهد شعبي صوفي من نوعه).
* مؤسس الطريقة المحمدية الشاذلية.
* عضو بالمجلس الأعلىٰ للشئون الإسلامية.
* عضو (الهيئة العليا للدعوة بالأزهر) برئاسة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود.
* عضو اللجنة الدينية العليا بمحافظة القاهرة.
* كان خبيرًا باللجنتين التاريخيتين لإصلاح التصوف، برئاسة السيد وزير الداخلية، ثم برئاسة الشيخ الباقوري وزير الأوقاف وقتئذ -رحمه الله، وعلىٰ مجهود هاتين اللجنتين صدرت اللائحة الصوفيَّة الحالية، وقد كان له عليها عدة مآخذ، لولا أنها كانت الخطوة الأولىٰ في سبيل إصلاح التصوف بمصر، وتعتبر نواة لما بعدها.
كما كان عضوًا إداريًّا عاملًا في أكثر من جماعة وهيئة ولجنة إسلامية، واجتماعية، وثقافية عامة وخاصة، رسمية وشعبية، بمصر والخارج، منها: (جماعة أبوللو) للشعراء بدعوة المرحوم أحمد شوقي أمير الشعراء.
كذلك كتب في: «لواء الإسلام»، و«المسلم»، و«الخلاصة»، و«العمل»، و«الرسالة الإسلامية»، و«التصوف الإسلامي»، وجريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، و«السياسة» الأسبوعية، و«النهضة الفكرية»، و«الفجر»، و«أبولو»... وغيرها من المجلات.
وقد أسس شيخنا -رحمه الله- جماعة (الروَّاد الأوائل)، وكان يقوم بتحرير مجلتها: «التعارف».
واشتغل في الخمسينيَّات بتحرير وإدارة مجلة «الخلاصة» لصاحبها الأستاذ سيد مصطفى، أمين رابطة الإصلاح، ثم بتحرير وإدارة مجلة «العمل» لصاحبها الأستاذ عبد العليم المهدي، ثم أسس مجلته: «المسلم» سنة 1950م، وقام بوضع منهجها وتحريرها وإدارتها وتطويرها والإشراف عليها إلى وفاته -رحمه الله.
وقد تنوعت مقالات الشيخ وكتاباته؛ فكان منها: المقال الديني، والاجتماعي، والتاريخي، والأدبي، والسياسي، وكان منها البحث الأكاديمي، والمقال الصحفي.
كل هذا رغم امتحانه الدائم بالأمراض الشديدة، والأوجاع المستمرة، وكان يبذل بكل السخاء وبالغ الجود من ماله الخاص في سبيل الدعوة والإسلام بلا مَنٍّ ولا أذىٰ، ولا إعلان ولا إشارة.
مؤتمرات:
شارك الشيخ - رحمه الله تعالى - في العديد من المؤتمرات، منها:
*المؤتمر العالمي للسيرة والسنة.
*مؤتمر التبليغ والدعوة العالمي.
* كما كان مؤسسًا لـ(مؤتمر الهيئات والجمعيات الدينية للعمل علىٰ تطبيق الشريعة الإسلامية)، بمشاركة أخيه في الله شيخ الأزهر: (الدكتور عبد الحليم محمود)، والأستاذ الشيخ حسنين مخلوف عميد الإفتاء، وعضوية جمهرة رؤساء وعلماء وممثلي الجماعات الإسلامية الرسمية والشعبية بمصر، الذي انعقد في الثمانينيات لثلاثة أيام، وهو أول مؤتمر من نوعه تشترك فيه الهيئات الحكومية، والجمعيات الإسلامية.
* أسس (المؤتمر الصوفي العالمي) و(مؤتمر المرأة المسلمة)، الذي عقد في أوائل الخمسينيات، واشتركت فيه الجماعات الإسلامية، وكان له صداه في العالم كله، وكان -رحمه الله- من أقدم مؤسسي جمعية الإخوان المسلمين، ثم تركها مع الدكتور المرحوم (إبراهيم حسن)، وطائفة من خيرة الرجال.
* (المؤتمر القرآني) برئاسة نائب رئيس الجمهورية السيد حسين الشافعي.
التصوف في حياته:
سماه بعض العارفين بالله: (الشاذلي الثاني)، كما سُمي أبو الحسن: (الجنيد الثاني)، فقد جدَّد الله تعالى بالإمام محمد زكي الدين إبراهيم التصوف عمومًا، والشاذلية خصوصًا، وأحيا الله تعالى به معارف قد طويت، وعلومًا هي ميراث أهل الصلاح والعرفان، فكان نسيج وحده، ومدرسة عظيمة.
تخرج في التصوف على يد والده، الذي كان شيخ فتحِه وتمكينِه، وما زال يمده ويعرفه بالصالحين ويأمره بالأخذ عنهم؛ حتى أصبح الإمام الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم مجمع أسانيد عصره في التصوف، وما زال شيخه يرعاه في سلوكه، فقطع شيخنا مدارج السلوك الصوفى، وأتم مسيرة الأسماء، ودخل الخلوة الصغرى والكبرى.
أمره شيخه الوالد بالإرشاد في حياته، فانطلق في الطريق مجاهدًا وداعيًا إلى الله على بصيرة، يربي المريدين ويرشدهم.
وبعد أن تلقىٰ شيخنا الطريقة الناصرية الشاذلية عن والده، وتأكيدًا لنسب الطريقة تلقىٰ شيخنا الطريقة الناصرية الشاذلية الشريفة عن الزعيم المغربي الكبير السيد اليمني الناصري، وأخيه السيد المكي الناصري، أيام إقامتهما بمصر في بداية الثورة المغربية، كما تلقَّاها عن السيد الأمير عبد الكريم الخطابي مدة إقامته بمصر أيضًا، رحم الله الجميع.
وورث الشيخ - رحمه الله - مقامات شيوخه، فهو الشاذلي في روحانيته ومدده ووارده وورده، وهو أبو العباس في نورانيته واتصاله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ابن عطاء الله في حكمته وحكمه في المذهبين، وهو الشيخ زروق محتسب العلماء والأولياء في تجديده الطريق وقمعه للمبتدعة، وهو شيخ الأولياء سيدي محمد بن ناصر الدرعي في معارفه وعلومه وتشرعه، وهو ابن عجيبة في فيوضه وشروحه، بل هو صاحب جبل العلم ابن مشيش في خفائه وظهوره، بل هو أبو مدين الغوث في معارفه وشعره ونثره.
ولقد كان لسيدنا الإمام من جده صلى الله عليه وآله وسلم الحظُّ الوافرُ، والنصيبُ الأتمُّ، وما زال يتقلب في مقامات الطريق، في زيادة من فضل الله، حتى لقي الله تعالى، نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدًا.
واقرأ –إن شئت –قصيدته الأُويسية، وقصيدته في القطب، وقصيدته المنبهجة، وقصيدته (صوفي عرفته فوصفته)، فإنه ما أراد بها إلا نفسه.
كان - رحمه الله - يدعو إلى الوسطية، ويكافح التطرف والتشدد، بقدر ما يكافح التخريف والتحريف، والتظاهر والرياء والضعف.
وله دعوته العلمية الثائرة القوية العملية إلىٰ الصحوة الصوفية الناهضة، وإلىٰ تحرير التصوف وتطهيره وإدماجه في الحياة الجادة، علىٰ طريق الكتاب والسنة قولًا وعملًا، ثم دعوته إلىٰ (الجامعة الصوفية العالمية) كنواة للتجمع الإسلامي، بداية من الاتحاد العام للجمعيات الإسلامية، ودعوته إلىٰ إنشاء دائرة المعارف الصوفية التاريخية، وبيت الصوفية الجامع للمكتبة والمستشفىٰ والفندق وقاعة الاحتفالات، ومعهد الدراسات الصوفية، والمركز العلمي الصوفي، والمطبعة والمجلة والجريدة، وكافة المنافع، والمؤتمر الصوفي العالمي السنوي، الذي عقد في دورته الأولىٰ في الأربعينيات لثلاثة أيام بمصر، وقد تبنت الجماهيرية الليبية عقد دورته عام 1996م.
ومع كل هذا لم يقبل مشيخة الطرق الصوفية، ولا عضوية مجلسها الأعلىٰ؛ وقال: «ما سرني أن صرت شيخًا لطبال وزمار». وذلك إيثارًا لحريته في دعوة الإصلاح الصوفي والمذهبي وغيره، ووقوفًا مع رأيه الخاص في كل ذلك، وقوة الحركة والتجديد علىٰ الأساس الشرعي والروحي الصحيح، ولكل هذا؛ تتلمذ عليه كبار الصفوة من كبار رجال العلم والأدب والإدارة، وطلاب الحقيقة والدار الآخرة.
* وقد لاقىٰ في سبيل دعوته ما لا يوصف من أنواع الأذىٰ البالغ ماديًّا وأدبيًّا في شخصه وعمله ووظيفته وخصوصياته وعمومياته، وهو سعيد مستمر صامد حتىٰ يلقىٰ الله مجاهدًا راضيًا مرضيًّا إن شاء الله، شأن آبائه وأجداده في خدمة الدين والوطن.
* وكما عانىٰ من أعداء الصوفية بما لم يخطر علىٰ بال، كذلك عانىٰ من أدعياء التصوف الرسميين، الذين حكموا بفصله من الصوفية (لأول مرة في التاريخ)، حتىٰ رُفِعَ الأمر إلىٰ مجلس الدولة؛ فحكم له (لأول مرة في التاريخ الصوفي الرسمي)، أشرف حكم وأصدقه، بالإضافة إلىٰ ما ينْظُره القضاء العادي، فيما بينه وبين المتمسلفة، سواء منهم الحمقىٰ والمأجورين، حتىٰ تدخل فيه فضيلة الإمام شيخ الأزهر الشريف، فضيلة الشيخ جاد الحق، ورئيس لجنة الفتوىٰ: الشيخ عطية صقر، وطائفة من المسئولين، وبعض كبار الرجال، وكذلك حُكم له بفضل الله تعالى.
* الصوفي المجاهد:
وقد شارك في الإعداد لحرب عام 1973م هو وتلاميذه، وكبار أعضاء العشيرة والطريقة بأعمال التعبئة والتوعية والإعداد، حتىٰ كان يبيت الليالي ذوات العدد مع جنود الجبهة علىٰ البحر الأحمر مع أخيه في الله زعيم السويس الشعبي الصوفي: الشيخ حافظ سلامة، وزميله فضيلة الشيخ محمد الغزالي، وخاصَّة العلماء، وكم تعرض ومن معه للأخطار الداهمة، وواجه الأسر والقتل بين بورسعيد والإسماعيلية والسويس أمام الهجمات اليهودية؛ وذلك وراثة عن جده الإمام الحسين بن الإمام عليٍّ، في حروب شمال أفريقيا وأواسط آسيا، وعن شيخه أبي الحسن الشاذلي في موقعة المنصورة أمام الصليبيين، وغيره من الصوفية السابقين الجامعين بين واجب الدنيا والدين.
ولا بد أن نشير هنا إلىٰ فرع العشيرة والطريقة بالسويس، الذي قام بالبطولات الفدائية، وبالمشاركة الإيجابية الدائمة في الكفاح ضد اليهود منذ حرب 1948م، حتىٰ جاء نصر الله تحت إشراف الأخ الشيخ المهدي عبد الوهاب عميد العشيرة بالسويس، ومؤسس مسجد أهل الذكر بالأربعين.
قال عن التصوف:
التصوف هو: «التخلِّي عَن كل دَنِي، والتحَلِّي بكل سَني، سلوكًا إلى مراتب القرب والوصول، فهو إعادة بناء الإنسان، وربطه بمولاه في كل فكر، وقول، وعمل، ونية، وفي كل موقع من مواقع الإنسانية في الحياة العامَّة».
ويمكن تلخيص هذا التعريف في كلمة واحدة، هي: (التقوى) في أرقى مستوياتها الحسيَّة والمعنوية.
وروح التقوى هو (التزكي) و﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى:14]، و﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس:9].
* وقد امتاز التصوف بالدعوة، والجهاد، والخلق، والذكر، والفكر، والزهد في الفضول،0020وكلها من مكونات التقوى أو (التزكي) وبهذا يكون التصوف مما جاء به الوحي، ومما نزل به القرآن، ومما حثت عليه السنة، فهو مقام (الإحسان) فيها، كما أنه مقام التقوى في القرآن، والتزكي في القرآن، والإحسان في الحديث: مقامُ الربانية الإسلامية، يقول تعالى: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران:79].
* أما استخدام الرقص، والطبل، والزمر، والغناء –فيما يسمى حلقات الذكر– فليس من دين الله (قولًا واحدًا) سواء عند أئمة الصوفية، أو غير الصوفية، وإنما هو من الدخيل والدسيس الذي تسلل إلى التصوف فأفسده وأساء إليه.
ينقل الشيخ ابن الحاج في «مدخل الشرع الشريف»:
قلنا: وقد عاب الله نحو ذلك على المشركين من قبل، فقال: ]وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَة[[سورة الأنفال: 35] يعني تصفيرًا وتصفيقًا! وهما من لوازم الطبل والزمر والرقص!!
إن الرقص، والطبل، والزمر، لا شك هو لهو ولعب، فإذا اتخذناه دينًا، كان افتراء على الله، وهو تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا﴾ [الأعراف: 51]، و﴿لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ [الأنعام: 70]. والله لا يأمر بترك شيء هو قربة إليه، فإذا كرر الأمر كان معنى هذا أنه شيء يغضب له غضبًا مضاعفًا، لما فيه من تعدٍّ لحدوده تعالى، وعلى حدوده، يقول شاعر الصوفية:
يا عصبة ما ضر أمة أحــمد |
* |
وسعى على إفسادها إلا هي |
تار، ومزمار، ونغمة شادن |
* |
أتكون قط عبادة بملاهي؟! |
أما ما يحيط بالموالد من منكرات جعلتها مجالًا خصبًا للمرتزقة والنصابين، فإن الموالد بوضعها الحالي فيها المشروع والممنوع، وقد أصبح الممنوع فيها غالبًا على المشروع للأسف الشديد، فمثلًا: قراءة القرآن، ومجالس العبادة، وحلق العلم، وانتشار الصدقات، وما يكون بين الناس من التعارف، والتآلف، والتعاطف، ورواج الحركة التجارية، والتلاقي على الله بحسن النية وصفاء القلب، ووفرة الجو الاجتماعي المحبب شرعًا وطبعًا، كل ذلك «حركة فيها بركة» لا ينكرها عقل، ولا دين، والإسلام دين التجميع والتكتيل، ولدينا جماعات الصلوات، والجمع، والعيدين، فضلًا عن اعتبار الموالد نوعًا من الفرح بفضل الله ورحمته، فبذلك فليفرحوا.
ولكن بجوار هذا شر موبق: عبادة محرفة، وتجمعات منكرة، ولصوصية أعراض، ولصوصية أموال، ومراتع فسوق، وبؤرات ميسر، ومستنقعات تخريف، وتحريف، وشعوذة، وتفاخر، وتكاثر بالأتباع والأموال، والمظاهر. وضياع أي ضياع للأموال والأوقات والأخلاق والطاعات!!
إن هذه الموالد يمكن أن تصبح أسواقًا للثقافة الربانية، ومنابر للدعوة الوطنية والإسلامية، ومناسبات للخير العام والخاص، لا يمكن أن تضارعها فيه أية تجمعات مصنوعة، مهما استقطبت من المغريات، وليس هذا في يد أحد سوى الحكومة أولًا، فيما لها من الإشراف عليه، ثم في يد مشيخة الطرق الصوفية، فيما لها من الإشراف عليه إذا صح العزم، وصح الحزم على التغيير، وطرحت المجاملات، وصدقت المواجهات.
هذا هو التصوف الذي نعرفه، فإذا كان هناك تصوف يخالف ذلك، فلا شأن لنا به، ووزره على أهله، ونحن لا نُسأل عنهم فــ ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور:21] والمتمصوف شيء، والصوفي شيء آخر.
ثناء العلماء عليه:
قال عنه الدكتور سعيد أبو الإسعاد في كتابه «البيان الجازم أن التصوف لتزكية الإنسان نهج لازم»: «هو العالم الموسوعي، الذي عاش حياته يكافح أدعياء التصوف، وسمَّاهم بالمتمصوفة، كذلك أدعياء التسلف، وسماهم بالمتمسلفة»
وقد ترجم للإمام محمد زكي إبراهيم وأثنى عليه عدد كبير من علماء مصر والعالم الإسلامي، منهم:
1) الإمام الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر في كتابه «المدرسة الشاذلية»
ونَشَر لشيخنا خطابًا في كتابه «أبو مدين الغوث»، كما نشر بنفس الكتاب قصيدة لأبي مدين الغوث مع شرح شيخنا لها.
وقدَّم له شيخُنا - رحمه الله - تحقيقه لكتاب «المنقذ من الضلال» في طبعته الأولى، وكان الإمام الدكتور عبد الحليم محمود ينعت شيخنا بالعارف بالله.
2) الشيخ الحسيني أبو هاشم والدكتور أحمد عمر هاشم في كتابهما المشترك «المحدِّثون في مصر» وقد ترجما فيه لشيخنا ترجمة طيبة وافية، ذكرا فيها اهتمامه بالجانب الحديثي وأسانيده، ومؤلفاته، وطريقته في التأليف والعلم.
3) وأثنى عليه وعلى العشيرة المحمدية المحدث الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري في كتابه «سبيل التوفيق»، وفي آخر كتابه «بدع التفاسير»، وفي غير مؤلف له، وكان بينهما مودَّة عظيمة، وكان شيخنا - رحمه الله تعالى - ممن ثبت معه حين تنكر النَّاس له لمَّا اعتقل في عهد عبد الناصر، ومكث في السجن الحربي إحدى عشرة سنة كاملة، وكان السيد عبد الله بن الصديق الغماري كاتبًا ومفتيًا بمجلة المسلم وعضوًا بمجلس علماء العشيرة المحمدية.
4) وأثنى عليه وذكر شيئًا من نشاطه في الدعوة إلى الله الشيخ الداعية أبو الحسن الندوي في عدة مواضع من كتابه المشهور «مذكرات سائح في الشرق» حيث زار العشيرة المحمدية، وسمع خطبة الجمعة من شيخنا -رحمه الله، وخرج معه في رحلة دعوية ريفية ببعض الأقاليم المصرية، ولِمَا كتبه الندوي في كتابه هذا أهمية خاصة، فقد وصف الجانب الدعوي والخطابة عند شيخنا - رحمه الله - وصفًا دقيقًا.
5) وذكره فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري في كتابه «قطوف» الذي نشرته مؤسسة الأخبار، والذي ذكر فيه عددًا من الصوفية الأتقياء وجهادهم في نشر الدعوة والإصلاح كالمراغنة والأدارسة والسنوسية، وذكر شيخنا الإمام الرائد كأنموذج للصوفي العالم العارف المجاهد في هذا العصر، وبين الشيخ الباقوري وشيخنا رحمهما الله رحلة كفاح وجهاد في سبيل إصلاح قوانين الطرق الصوفية.
6) ورغم ما كان بين الداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي السقا -رحمه الله- وبين شيخنا -رحمه الله- من مناظرات ومساجلات استمرت شهورًا على صفحات «المسلم» و«لواء الإسلام» و«الأخبار» إلا أنه كان دائم الثناء على الشيخ -رحمه الله- عارفًا لقدره، سجل ذلك في تلك المساجلات وفي غيرها من مقالاته، وفي كتابه «الجانب العاطفي في الإسلام»، وقد كان لهما ندوات دينية مشتركة بجمعية (الشبان المسلمين العالمية) وبعض الجمعيات الكبرى بمصر.
7) وقد أرخ الدكتور عبد المنعم خفاجي في كتابه عن التصوف الإسلامي لكبار شيوخ التصوف الإسلامي فذكر منهم جدَّ الشيخ لأمه الشيخ محمود أبو عليان، ثم ذكر شيخنا الرائد -رحمه الله- في المعاصرين، وأثبت بعضًا من أفكاره في سبيل إصلاح التصوف كفكرة (الجامعة الصوفية) و(المكتبة الصوفية) ... وغيرها.
8) العارف بالله الشيخ أحمد رضوان البغدادي الأقصري، وقد كان بينهما مودة عظيمة، ومراسلات مفيدة كثيرة مشهورة، طبع بعضها بمجلة «المسلم» وقد أوصى الشيخ أحمد رضوان بأن يقوم الشيخ -رحمه الله- بغسله وتكفينه وتجهيزه، فكان كما قال.
وهناك الكثير من السادة العلماء ممن أثنوا على الشيخ أو ترجموا له في كتبهم، منهم: علامة الحجاز السيد علوي بن عباس المالكي، وولده المجاهد السيد الدكتور محمد علوي المالكي، والعلامة الشيخ محمد الحافظ التجاني، والشيخ العارف بالله أبو المحاسن محمد سعد بدران، والإمام العارف الشيخ عمران الشاذلي، والسيد يوسف هاشم الرفاعي، والسيد علي الهاشمي، وعشرات غيرهم وفي أعداد «المسلم» التي صدرت مواكبةً لرحيله عشرات الكلمات لأجِلَّة علماء الأزهر ومشايخه، وقد ترجم له مؤرخ الأزهر الدكتور محمد رجب البيومي بمجلة الأزهر.
مؤلفاته:
تمتاز كتابات شيخنا - رحمه الله - بالبيان والوضوح، وقوة العبارة وسهولتها، وتوفر الإخلاص أعطاها روحًا هي روح من أُذن له في الكلام.
وقد ترك لنا شيخنا -رحمه الله- ثروة علمية هائلة: نحو مائة كتاب ورسالة في العلوم الدينية، كما ترك لنا مئات البحوث والفتاوى والمقالات والخطب والدروس (بعضها مكتوب وبعضها مسجل)، ومن كتبه المطبوعة:
(1) «أبجدية التصوف الإسلامي» عن أهم وأكثر ما يدور حول التصوف الإسلامي، فيما هو له وما هو عليه، بين أعدائه وأدعيائه.
(2) «أصول الوصول» أدلة أهم معالم الصوفية الحقة من صريح الكتاب وصحيح السنة.
(3) «الخطاب» خطاب صوفي جامع من الإمام الرائد إلى أحد كرام مريديه.
(4) «فواتح المفاتح» الدعاء وشروطه وآدابه وأحكامه.
(5) «أهل القبلة كلهم موحدون» يبين أن أهل القبلة كلهم موحدون، وكل مساجدهم مساجد التوحيد، ليس فيهم كافر ولا مشرك، وإن عصى وخالف.
(6) «الأربعون حديثًا الحاسمة ردعًا للطوائف المكفِّرة الآثمة».
(7) «حكم العمل بالحديث الضعيف» حول جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بشرطه عند علماء الحديث، وأن الضعيف جزء من الحديث المقبول عند أهل هذا الفن.
(8) «مراقد أهل البيت في القاهرة» يحقق أن رأس الإمام الحسين رضي الله عنه وجثمان السيدة زينب وغيرهما من آل البيت بالقاهرة، تاريخًا وواقعًا.
(9) «قضية الإمام المهدي» في تأكيد أن المهدي حق، ولكن لم يأت زمانه بعد، عقلًا ونقلًا.
(10) «ديوان البقايا» شـعر صوفي واجتماعي فني مـعاصر عميق.
(11) «ديوان المثاني» الجزء الأول، والجزء الثاني: مثاني من الأبيات الشعرية تستغرق أغراضًا مختلفة، وحكمًا وتوجيهات، وآدابًا وصوفيات رائعة.
(12) «أمهات الصلوات النافلة» الصلوات النافلة ومسائلها وأحكامها من الكتاب والسنة.
(13) «ليلة النصف من شعبان» قيامها، فضلها، الدليل الحاسم على إحيائها.
(14) «عصمة النبي ونجاة أبويه وعمه» ردٌ على أقوال المنكرين، وتأكيد لعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحلول المشاكل المدعاة حولها بقواطع الأدلة، مع بحث خاص بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(15) «الإسكات، بركات القرآن على الأحياء والأموات» من الحديث النبوي.
(16) «حول معالم القرآن» على طريقة المحدِّثين في قضايا ومعلومات قرآنية مهمة.
(17) «معالم المجتمع النسائي في الإسلام» أحكام وقضايا النساء المختلفة بأسلوب علمي ميسر.
(18) «فقه الصلوات والمدائح النبوية» بحث جديد في فقه السيرة من الصلوات ومدائح الشعر والنثر قـدمه للأزهـر في مؤتمر الفقه والسيرة العالمي.
وله غير ذلك من الكتب والرسائل المطبوعة والمخطوطة، وتبلغ نحو مائة كتاب ورسالة، فضلًا عن المقالات والمحاضرات.
* أنواط وأوسمة:
- أهداه الرئيس جمال عبد الناصر (وشاح الرواد الأوائل ونوط التكريم).
- وأهداه الرئيس السادات (نوط الامتياز الذهبي) من الطبقة الأولىٰ.
- وأهداه الرئيس حسني مبارك (وسام العلوم والفنون) المخصص لكبار العلماء والأدباء، كما أهداه (نوط الامتياز الذهبي) من الطبقة الأولىٰ أيضًا.
- وأهداه الرئيس اليمني عبد الله السلال (وشاح اليمن والخنجر).
-وأهدته محافظة القاهرة، ووزارة الشئون الاجتماعية، وبعض المؤسسات الكبرىٰ، عددًا كثيرًا من شهادات التقدير والأوسمة، ذات القيمة المعنوية.
وفاته:
رحم الله شيخنا، كان المسجد بيته الذي لم يبرحه، ومدرسته ومضيفته وساحته، محط رحال كل من زاره ممن عرف قدره من العلماء والرؤساء والأمراء.
ثُمَّ كان المسجد مجاورًا لمدفنه، فقد انتقل إلى رحمة الله الساعة الثالثة تمامًا من فجر يوم الأربعاء 16 من جمادى الآخرة 1419 هـ، الموافق 7 من أكتوبر 1998 م بعد حياة حافلة استمرت نحو قرن من الزمان في الدعوة إلى الله، على هدى وبصيرة، ودفن مع أبيه وجدِّه بجوار مسجد مشايخ العشيرة المحمدية بقايتباي القاهرة.
المراجع:
* أبجدية التصوف الإسلامي، للشيخ محمد زكي الدين إبراهيم.
* الخطاب، للشيخ محمد زكي الدين إبراهيم.
* مراقد أهل البيت النبوي في مصر. للشيخ محمد زكي الدين إبراهيم.