بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
وحـــدة الـوجـــود(1)
عـند ابن العـربي
قوله رضي الله عنه: سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها.
وقوله: أصل الأصول الكشفي، هو وجود رب في عين عبد.
وقوله: سبحان من يكلم نفسه بنفسه في أعيان خلقه.
مسألة وحدة الوجود هي مشكلة المشاكل، ومعضلة المعضلات - التي خاض فيها من يعلم ومن لا يعلم - وما من أحد حاول أن يعربها إلا أعجمها، ولو نقلت عبارات الشيخ رضي الله عنه كما هي، لما احتاجت إلى إيضاح، فإنها تنبي عن معانيها فضلاً عن جزالة مبانيها، علماً بأنني لم أقف على هذه اللفظة عينها في كتب الشيخ إلا مرة واحدة، في الجزء الثاني من الفتوحات الصفحة (502) إذ يقول: "أثـْبـِت الكثرة في الثبوت وانـْفِها من الوجود، وأثبت الوحدة في الوجود، وانفها من الثبوت"، ولكن كل كلامه يفيد معانيها، وإليك نص عبارات الشيخ رضي الله عنه مؤلفة إلى بعضها بعضاً، فيقول رضي الله عنه:
اعلم أيها الولي الحميم، أن الوجود مقسم بين عابد ومعبود، فالعابد كل ما سوى الله تعالى، وهو العالـَم المعبر عنه والمسمى عبداً، والمعبود هو المسمى الله، وما في الوجود إلا ما ذكرناه، فكل ما سوى الله عبد لله، مما خـُلِق ويـُخـْلـَق، وفيما ذكرناه أسرار عظيمة تتعلق بباب المعرفة بالله وتوحيده، وبمعرفة العالم ورتبته، فالوجود مطلقاً من غير تقييد، يتضمن المكلـِّف وهو الحق تعالى، والمكلـَّفين وهم العالم، وبين العلماء في هذه المسألة من الخلاف ما لا يرتفع أبداً، ولا يتحقق فيه قدم يثبت عليه، ولهذا قدر الله السعادة لعباده بالإيمان، وفي العلم بتوحيد الله خاصة، ما ثمَّ طريق إلى السعادة إلا هذان، فالإيمان متعلقه الخبر الذي جاءت به الرسل من عند الله، وهو تقليد محض نقبله سواء علمناه أو لم نعلمه، والعلم ما أعطاه النظر العقلي أو الكشف الإلهي، وإن لم يكن هذا العلم يحصل ضرورة، حتى لا تقدح فيه الشبه عند العالم به، وإلا فليس بعلم. (ف ج3/78 - ج1/52 - ج3/78)
واعلم أن المعلومات ثلاثة لا رابع لها، وهي: الوجود المطلق الذي لا يتقيد وهو وجود الله تعالى الواجب الوجود لنفسه، والمعلوم الآخر العدم المطلق الذي هو عدم لنفسه وهو الذي لا يتقيد أصلاً وهو المحال، وهو في مقابلة الوجود المطلق فكانا على السواء، حتى لو اتصفا لحكم الوزن عليهما، وما من نقيضين متقابلين إلا وبينهما فاصل، به يتميز كل واحد من الآخر، وهو المانع أن يتصف الواحد بصفة الآخر، وهذا الفاصل الذي بين الوجود المطلق والعدم، لو حكم الميزان عليه لكان على السواء في المقدار من غير زيادة ولا نقصان، وهذا هو البرزخ الأعلى، وهو برزخ البرازخ، له وجه إلى الوجود ووجه إلى العدم، فهو يقابل كل واحد من المعلومين بذاته، وهو المعلوم الثالث، وفيه جميع الممكنات وهي لا تتناهى، كما أنه كل واحد من المعلومين لا يتناهى، ولها (أي الممكنات) في هذا البرزخ أعيان ثابتة من الوجه الذي ينظر إليها الوجود المطلق، ومن هذا الوجه ينطلق عليها اسم الشيء، الذي إذا أراد الحق إيجاده قال له: كن، فيكون، وليس له أعيان موجودة من الوجه الذي ينظر إليه منه العدم المطلق، ولهذا يقال له: كن، وكن حرف وجودي، فإنه لو أنه كائن ما قيل له: كن، وهذه الممكنات في هذا البرزخ بما هي عليه وما تكون، إذا كانت مما تتصف به من الأحوال والأعراض والصفات والأكوان، وهذا هو العالم الذي لا يتناهى، وما له طرف ينتهى إليه، ومن هذا البرزخ هو وجود الممكنات، وبها تتعلق رؤية الحق للأشياء قبل كونها، وكل إنسان ذي خيال وتخيل إذا تخيل أمراً ما، فإن نظره يمتد إلى هذا البرزخ، وهو لا يدري أنه ناظر ذلك الشيء في هذه الحضرة، وهذه الموجودات الممكنات التي أوجدها الحق تعالى، هي للأعيان التي يتضمنها هذا البرزخ بمنزلة الظلالات للأجسام، بل هي الظلالات الحقيقية، وهي التي وصفها الحق سبحانه بالسجود له مع سجود أعيانها، فما زالت تلك الأعيان ساجدة له قبل وجودها، فلما وجدت ظلالاتها وجدت ساجدة لله تعالى، لسجود أعيانها التي وجدت عنها، من سماء وأرض وشمس وقمر ونجم وجبال وشجر ودواب وكل موجود، ثم لهذه الظلالات التي ظهرت عن تلك الأعيان الثابتة - من حيث ما تكونت أجساماً - ظلالات، أوجدها الحق لها دلالات على معرفة نفسها من أين صدرت، والحضرة البرزخية هي ظل الوجود المطلق من الاسم النور، الذي ينطلق على وجوده، فلهذا نسميها ظلاً، ووجود الأعيان ظل لذلك الظل، والظلالات المحسوسة ظلالات هذه الموجودات في الحس، ولما كان الظل في حكم الزوال لا في حكم الثبات، وكانت الممكنات - وإن وجدت - في حكم العدم سميت ظلالات، ليفصل بينها وبين من له الثبات المطلق في الوجود، وهو واجب الوجود، وبين من له الثبات المطلق في العدم، وهو المحال، للتتميز المراتب، فالأعيان الموجودات إذا ظهرت ففي هذا البرزخ هي، فإنه ما ثمَّ حضرة تخرج إليها، ففيها تكتسب حالة الوجود، والوجود فيها متناه ما حصل منه، والإيجاد فيها لا ينتهي، فما من صورة موجودة إلا والعين الثابتة عينها، والوجود كالثوب عليها، فالممكن كالحال الفاصل بين الوجود والعدم، فهو لا موجود ولا معدوم، فإن نـَسَـبـْتـَه إلى الوجود وجدت فيه منه رائحة لكونه ثابتاً، وإن نـَسََبـْتـَه إلى العدم صدقت لأنه لا وجود له، والعجب من الأشاعرة، كيف تنكر على من يقول: إن المعدوم شيء في حال عدمه، وله عين ثابتة ثم يطرأعلى تلك العين الوجود، وهي تثبت الأحوال؟! اللهم منكر الأحوال لا يتمكن له هذا، ثم إن هذا البرزخ - الذي هو الممكن - بين الوجود والعدم، سبب نسبة الثبوت إليه مع نسبة العدم، هو مقابلته للأمرين بذاته، وذلك أن العدم المطلق قام للوجود المطلق كالمرآة، فرأى الوجود فيه صورته، فكانت تلك الصورة عين الممكن، فلهذا كان للممكن عين ثابتة وشيئية في حال عدمه، ولهذا خرج على صورة الوجود المطلق، ولهذا أيضاً اتصف بعدم التناهي، فقيل فيه: إنه لا يتناهى، وكان أيضاً الوجود المطلق كالمرآة للعدم المطلق، فرأى العدم المطلق في مرآة الحق نفسه، فكانت صورته التي رأى في هذه المرآة، هو عين العدم الذي اتصف به هذا الممكن وهو موصوف بأنه لا يتناهى، كما أن العدم المطلق لا يتناهى، فاتصف الممكن بأنه معدوم، فهو كالصورة الظاهرة بين الرائي والمرآة لا هي عين الرائي ولا غيره، فالممكن ما هو من حيث ثبوته عين الحق ولا غيره، ولا هو من حيث عدمه عين المحال ولا غيره، فكأنه أمر إضافي، ولهذا نزعت طائفة إلى نفي الممكن وقالت: ما ثمَّ إلا واجب أو محال، ولم يتعقل لها الإمكان، فالممكنات على ما قررناه أعيانٌ، ثابتة من تجلي الحق، معدومة من تجلي العدم، والممكنات متميزة في ذاتها في حال عدمها، ويعلمها الله سبحانه وعلى ما هي عليه في نفسها، ويراها ويأمرها بالتكوين وهو الوجود، فتتكون عن أمره، فما عند الله إجمال، كما أنه ليس في أعيان الممكنات إجمال، بل الأمر كله في نفسه وفي علم الله مفصل، وإنما وقع الإجمال عندنا وفي حقنا وفينا ظهر، فالممكن من المحال عدم عينه الثابتة، كما أنه من المحال اتصاف عينه بأنه عين الوجود، بل الوجود نعته بعد أن لم تكن، وإنما قلنا هذا، لأن الحق هو الوجود، ولا يلزم أن تكون الصفة عين الموصوف بل هو محال، والعبد باقي العين في ثبوته، ثابت الوجود في عبوديته، دائم الحكم في ذلك، قال تعالى ,وإن من شيء إلا عندنا خرائنه-و"إن" هنا بمعنى ما، فعَمَّ بها وبشيء، وجعله مخزوناً في خزائن غيبه عنا، فقلنا: إن الكون صادر من وجود وهو ما تحويه هذه الخزائن، إلى وجود وهو ظهورها من هذه الخزائن لأنفسها ,وما ننزله إلا بقدر معلوم-فما يتميز عنده إلا ما هو موجود له، ولا يجري القدر إلا في عين مميزة عن غيرها، وليس هذا صفة المعدوم من كل وجه، فدل ذلك كله على وجود الأعيان لله تعالى في حال اتصافها بالعدم لذاتها، وهذا هو الوجود الأصلي لا الإضافي والعدم الإضافي، فثبتت الأحوال للعالـَم ولكل ما سوى الله، وأن الوجود ليس عين الموجود إلا في حق الحق سبحانه، حتى لا يكون معلولاً لوجوده، فإنه لو كان معلولاَ لوجوده، لكان حالاً له، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. (ف ج3/46، 456 - ج2/516، 587)
واعلم أنه كان في مقابلة وجود الحق أعيان ثابتة موصوفة بالعدم أزلاً، وهو الكون الذي لا شيء مع الله فيه، إلا أن وجوده أفاض على هذه الأعيان على حسب ما اقتضته استعداداتها، فتكونت لأعيانها لا له، من غير بينية تعقل أو تتوهم، فالعين الثابتة للشيء حال عدمه، هي له نسبة أزلية لا أول لها، وابتداء الظهور عبارة عما اتصفت به من الوجود الإلهي، إذ كانت مظهراً للحق، فهو المعبر عنه بابتداء الظهور، فإن تعدد الأحكام على المحكوم عليه مع أحدية العين، إنما ذلك راجع إلى نسب واعتبارات، فعين الممكن لم تزل ولا تزال على حالها من الإمكان، فلم يخرجها كونها مظهراً حتى انطلق عليها الاتصاف بالوجود، عن حكم الإمكان فيها، فإنه وصف ذاتي لها، والأمور لا تتغير عن حقائقها باختلاف الحكم عليها لاختلاف النسب.
ولما استحق الحق الوجود لذاته استحال عليه العدم، كذلك إذا استحق الممكن العدم لذاته استحال وجوده، فلهذا جعلناه مظهراً، فإن الممكن ما استحق العدم لذاته كما يقوله بعض الناس، وإنما الذي استحقه الممكن تقدم اتصافه بالعدم على اتصافه بالوجود لذاته لا العدم، ولهذا قبل الوجود بالترجيح، إذن فالعدم المرجح عليه الوجود، ليس هو العدم المتقدم على وجوده، وإنما هو العدم الذي له في مقابلة وجوده في حال وجوده، أن لو لم يكن الوجود لكان العدم، فذلك العدم هو المرجح عليه الوجود في عين الممكن، هذا هو الذي يقتضيه النظر العقلي، وأما مذهبنا: فالعين الممكنة إنما هي ممكنة لأن تكون مظهراً، لا لأن تقبل الاتصاف بالوجود، فيكون الوجود عينها، إذن فليس الوجود في الممكن عين الموجود، بل هو حال لعين الممكن، به يسمى الممكن موجوداً مجازاً لا حقيقة، لأن الحقيقة تأبى أن يكون الممكن موجوداً، فلا يزال ,كل شيء هالك-كما لم يزل، لم يتغير عليه نعت، ولا تغير على الوجود نعت، فالوجود وجود، والعدم عدم، والموصوف بأنه موجود موجود، والموصوف بأنه معدوم معدوم، قال تعالى ,كل شيء هالك إلا وجهه-وقال تعالى ,إنما قولنا لشيء إذا أردناه-فسماه شيئاً في حال هلاكه، فكل شيء موصوف بالهلاك، لأن ,هالك-خبر المبتدأ الذي هو ,كل شيء-أي كل ما ينطلق عليه اسم شيء فهو هالك وإن كان مظهراً، فهو في حال كونه مظهراً في شيئية عينه وهي هالكة، فهو هالك في حال اتصافه بالوجود، كما هو هالك في حال اتصافه بالهلاك الذي هو العدم، فإن العدم للممكن ذاتي، أي من حقيقة ذاته أن يكون معدوماً، والأشياء إذا اقتضت أموراً لذواتها فمن المحال زوالها، فمن المحال زوال حكم العدم عن هذه العين الممكنة، سواء اتصفت بالوجود أو لم تتصف، فعين الممكنات باقية على أصلها من العدم، وأنها مظاهر للحق الظاهر فيها، فلا وجود إلا لله، ولا أثر إلا لها، فإنها بذاتها تكسب وجود الظاهر ما تقع به الحدود في عين كل ظاهر، فهي أشبه شيءٍ بالعدد، فإنه معقول لا وجود له، وحكمه سار ثابت في المعدودات، والمعدودات ليست سوى صور الموجودات كانت ما كانت، والموجودات سبب كثرتها أعيان الممكنات، وهي أيضاً سبب اختلاف صور الموجودات، فالحق وإن كان هو الوجود الظاهر بصور ما هي المظاهر عليه، فما هو من جنسها، فإنه واجب الوجود لذاته، وهي واجبة العدم لذاتها أزلاً، فلها الحكم فيمن تلبس بها، كما للزينة الحكم فيمن تزين بها، فكما أن العدد حاكم لذاته في المعدودات ولا وجود له، فإن المظاهر حاكمة في صور الظاهر وكثرتها في عين الواحد ولا وجود لها، وليس عندنا في العلم الإلهي أغمض من هذه المسألة، فإن الممكنات على مذهب الجماعة ما استفادت من الحق إلا الوجود، وما يدري أحد ما معنى قولهم ما استفادت إلا الوجود، إلا من كشف الله عن بصيرته، وأصحاب هذا الإطلاق لا يعرفون معناه على ما هو الأمر عليه في نفسه، فإنه ما ثمَّ موجود إلا الله تعالى، والممكنات في حال العدم، فهذا الوجود المستفاد إما أن يكون موجوداً، وما هو الله ولا أعيان الممكنات، وإما أن يكون عبارة عن وجود الحق، فإن كان أمراً زائداً ما هو الحق ولا عين الممكنات، فلا يخلو أن يكون هذا الوجود موجوداً، فيكون موصوفاً بنفسه وذلك هو الحق، لأنه قد قام الدليل على أنه ما ثمَّ وجود أزلاً إلا وجود الحق، فهو واجب الوجود لنفسه، فثبت أنه ما ثمَّ موجود لنفسه غير الله، فقبلت أعيان الممكنات بحقائقها وجود الحق، لأنه ما ثمَّ وجود إلا هو، وهو قوله تعالى: ,وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق-وهو الوجود الصرف، فانطلق عليه ما تعطيه حقائق الأعيان، فحدثت الحدود وظهرت المقادير، ونفذ الحكم والقضاء، وظهر العلو والسفل والوسط، والمختلفات والمتقابلات، وأصناف الموجودات أجناسها وأنواعها وأشخاصها وأحوالها وأحكامها في عين واحدة، فتميزت الأشكال فيها، وظهرت أسماء الحق، وكان لها الأثر فيما ظهر في الوجود، غيرة أن تنسب تلك الآثار إلى أعيان الممكنات في الظاهر فيها، وإذا كانت الآثار للأسماء الإلهية، والاسم هو المسمى فما في الوجود إلا الله، فهو الحاكم وهو القابل، فإنه قابل التوب فوصف نفسه بالقبول، فالأمر ليس إلا وجود الحق، والموصوف باستفادة الوجود هو على أصله، ما انتقل من إمكانه، فحكمه باقٍ وعينه ثابتة، يتوجه عليها الخطاب، تسمع الأمر بالتكوين فتكون، وقبولها للتكوين هي أن تكون مظهراً للحق، لا أنها استفادت وجوداً، إنما استفادت حكم المظهرية، وهذا أمر عظيم إن تنبهت له وعقلته، فهو عين كل شيء في الظهور، ما هو عين الأشياء في ذواتها، سبحانه وتعالى، بل هو هو، والأشياء أشياء، فعين وجود الخلق عين وجود الحق، والخلق من حيث عينه هو ثابت، وثبوته لنفسه أزلاً، واتصافه بالوجود أمر حادث طرأ عليه، فليس الحق هو عين الأعيان الثابتة، بخلاف حال اتصافها بالوجود، فهو تعالى عين الموصوف بالوجود لا هي، وقد فطر الله الأشياء، فبه تميزت وانفصلت وتعينت، والأشياء في ظهورها الإلهي لا شيء، فالوجود وجوده والعبيد عبيده، فهم العبيد من حيث أعيانهم، وهم الحق من حيث وجودهم، فما تميز وجودهم من أعيانهم إلا بالفطرة التي فصلت بين العين ووجودها، وهو من أغمض ما يتعلق به علم العلماء بالله، كشفه عسير وزمانه يسير. (ف ج2/55، 484، 519، 70)
واعلم أنه ما في الوجود من يقبل الأضداد إلا العالـَم من حيث ما هو واحد، وفي هذا الواحد ظهرت الأضداد، وما هي إلا أحكام أعيان الممكنات في عين الوجود، التي بظهورها علمت الأسماء الإلهية المتضادة وأمثالها، فالصور المعبر عنها بالعالم هي أحكام أعيان الممكنات في وجود الحق، وهو الوجود الحادث، فإذا علمت هذا فقل بعد ذلك ما شئت، إما كثرة الأسماء أظهرت كثرة الأحكام، وإما كثرة الأحكام أظهرت كثرة الأسماء، فإنه أمر لا ينكره عقل ولا شرع، فالوجود يشهد له، وما بقي إلا ما ذكرناه إلى من ينسب الحكم، هل للأسماء الإلهية أم للممكنات الكونية؟ وهما مرتبطان محكوم بهما في عين واحدة، وقد علمنا أن العالم ما هو عين الحق، وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق، إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعاً، كما تحدث صورة المرئي في المرآة، ينظر الناظر فيها، فهو بذلك النظر كأنه أبدعها، مع كونه لا تعمل له في أسبابها، ولا يدري ما يحدث فيها، ولكن بمجرد النظر في المرآة ظهرت صور، هذا أعطاه الحال، فما لك في ذلك من التعمل إلا قصدك النظر في المرآة، ونظرك فيها مثل قوله ,إنما قولنا لشيء إذا أردناه-وهو قصدك النظر، ,أن نقول له كن-وهو بمنزلة النظر، ,فيكون-وهو بمنزلة الصورة التي تدركها عند نظرك في المرآة، ثم إن تلك الصورة ما هي عينك ، لحكم صفة المرآة فيها من الكبر والصغر والطول والعرض، ولا حكم لصورة المرآة فيك فما هي عينك، ولا عين ما ظهر ممن ليس أنت من الموجودات الموازية لنظرك في المرآة، ولا تلك الصورة غيرك لما لك فيها من الحكم، فإنك لا تشك أنك رأيت وجهك ورأيت كل ما في وجهك، ظهر لك بنظرك في المرآة من حيث عين ذلك، لا من حيث ما طرأ عليه من صفة المرآة، فما هو المرئي غيرك ولا عينك، كذلك الأمر في وجود العالـَم الحق، أي شيء جعلت مرآة أعني حضرة الأعيان الثابتة أو وجود الحق، فإما أن تكون الأعيان الثابتة لله مظاهر، فهو حكم المرآة في صورة الرائي فهو عينه، وهو الموصوف بحكم المرآة، فهو الظاهر في المظاهر بصورة المظاهر، أو يكون الوجود الحق هو عين المرآة، فترى الأعيان الثابتة من وجود الحق ما يقابلها منه، فترى صورتها في تلك المرآة ويترائى بعضها لبعض، ولا ترى ما ترى من حيث ما هي المرآة عليه، وإنما ترى ما ترى من حيث ما هي عليه، من غير زيادة ولا نقصان، وكما لا يشك الناظر وجهه في المرآة أن وجهه رأى، وبما للمرآة في ذلك من الحكم يعلم أن وجهه ما رأى، فهكذا الأمر، فانسب بعد ذلك ما شئت كيف شئت، فإن الوجود للعين الممكنة كالصورة التي في المرآة، ما هي عين الرائي ولا غير عين الرائي، ولكن المحل المرئي فيه به وبالناظر المتجلي فيه ظهرت هذه الصورة، فهي مرآة من حيث ذاتها، والناظر ناظر من حيث ذاته، والصورة الظاهرة تتنوع بتنوع العين الظاهرة فيها، كالمرآة إذا كانت تأخذ طولاً ترى الصورة على طولها، والناظر في نفسه على غير تلك الصورة من وجه، وعلى صورته من وجه، فلما رأينا المرآة لها حكم في الصورة بذاتها، ورأينا الناظر يخالف تلك الصورة من وجه، علمنا أن الناظر في ذاته ما أثرت فيه ذات المرآة، ولما لم يتأثر، ولم تكن تلك الصورة هي عين المرآة ولا عين الناظر، وإنما ظهرت من حكم التجلي للمرآة، علمنا الفرق بين الناظر وبين المرآة، وبين الصورة الظاهرة في المرآة التي هي غيب فيها، ولهذا إذا رؤي الناظر يبعد عن المرآة، يرى تلك الصورة تبعد في باطن المرآة، وإذا قرب قربت، وإن كان في سطحها على الاعتدال ورفع الناظر يده اليمنى، رفعت الصورة اليد اليسرى، تعرفه أني وإن كنت من تجليك وعلى صورتك، فما أنت أنا ولا أنا أنت، فإن عقلت ما نبهناك عليه، فقد علمت من أين اتصف العبد بالوجود، ومن هو الموجود، ومن أين اتصف بالعدم، ومن هو المعدوم، ومن خاطب ومن سمع، ومن عمل ومن كـُلـِّف، وعلمت من أنت ومن ربك، وأين منزلتك، وأنك المفتقر إليه سبحانه وهو الغني عنك بذاته، فسبحان من ضرب الأمثال، وأبرز الأعيان، دلالة عليه أنه لا يشبهه شيء، ولا يشبه شيئاً، وليس في الوجود إلا هو، ولا يستفاد الوجود إلا منه، ولا يظهر لموجود عين إلا بتجليه، فالمرآة حضرة الإمكان والحق الناظر فيها، والصورة أنت بحسب إمكانيتك، فإما ملك وإما فلك، وإما إنسان وإما فرس، مثل الصورة في المرآة بحسب ذات المرآة من الهيئة، في الطول والعرض والاستدارة واختلاف أشكالها، مع كونها مرآة في كل حال، كذلك الممكنات مثل الأشكال في الإمكان، والتجلي الإلهي يكسب الممكنات الوجود، والمرآة تكسبها الأشكال، فيظهر الملك والجوهر والجسم والعرض، والإمكان هو هو لا يخرج عن حقيقته، وأوضح من هذا البيان في هذه المسألة لا يمكن إلا بالتصريح، فقل في العالم ما تشاء وانسبه إلى من تشاء، بعد وقوفك على هذه الحقيقة كشفاً وعلماً، فإن وقفت عن إطلاق أمر تعطيك الحقيقة إطلاقه، فما تتوقف إلا شرعاً أدباً مع الله، الذي له التحجير عليك، فاعتمد على الأدب الإلهي، وتقرب إلى الله بما أمرك أن تتقرب إليه به، حتى يكشف لك عنك، فتعرف نفسك فتعرف ربك، وتعرف من أنت ومن هو.(ف ج4/107، 141، 107، 316 - ج3/80)
قال تعالى ,قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها-فاعلم أنه لما كان معنى الزكاة التطهير، ولما لم يكن المال الذي يخرج في الصدقة من جملة مال المخاطب بالزكاة، وكان بيده أمانة لأصحابه، لم يستحقه غير صاحبه وإن كان عند هذا الآخر، ولكنه هو عنده بطريق الأمانة إلى أن يؤديه إلى أهله، كذلك في زكاة النفوس، فإن النفوس لها صفات تستحقها، وهي كل صفة يستحقها الممكن، وقد يوصف الإنسان بصفات لا يستحقها الممكن من حيث ما هو ممكن، ولكن يستحق تلك الصفات الله، إذا وُصِف بها ليميزها عن صفاته التي يستحقها، كما أن الحق سبحانه وصف نفسه بما هو حق للممكن، تنزلاً منه سبحانه ورحمة بعباده، فزكاة نفسك إخراج حق الله منها، فهو تطهيرها بذلك الإخراج من الصفات التي ليست بحق لها، فتأخذ ما لك منه وتعطي ما له منك، فالإمكان للممكن واجب لنفسه، فلا يزال انسحاب هذه الحقيقة عليه لأنها عينه، والله تعالى لا حق له في الإمكان، يتعالى الله علواً كبيراً، فإنه تعالى واجب الوجود لذاته، غير ممكن بوجه من الوجوه، وقد وجدنا هذه النفس قد اتصفت بالوجود، فقلنا: هذا الوجود الذي اتصفت به النفس، هل اتصفت به لذاتها أم لا؟ فرأينا أن وجودها ما هو عين ذاتها، ولا اتصفت به لذاتها، فنظرنا لمن هو؟ فوجدناه لله، كما وجدنا القدر المعين في مال زيد المسمى زكاة ليس هو بمال لزيد، وإنما هو أمانة عنده، كذلك الوجود الذي اتصفت به النفس ما هو لها، إنما هو لله الذي أوجدها، فالوجود لله لا لها، ووجود الله لا وجودها، فقلنا لهذه النفس: هذا الوجود الذي أنت متصفة به ما هو لك وإنما هو لله، خلعه عليك، فأخرجه لله، وأضفه إلى صاحبه، وابق أنت على إمكانك لا تبرح فيه، فإنه لا ينقصك شيء مما هو لك، وأنت إذا فعلت هذا كان لك من الثواب عند الله، ثواب العلماء بالله، ونلت منزلة لا يقدر قدرها إلا الله، وهو الفلاح الذي هو البقاء، فيبقي الله هذا الوجود لك لا يأخذه منك أبداً، فهذا معنى قوله ,قد أفلح من زكاها-أي قد أبقاها موجودة ً مـَنْ زكاها، وجودَ فوز من الشر، أي من علم أن وجوده لله، أبقى الله عليه هذه الخلعة يتزين بها منعماً دائماً، وهو بقاء خاص ببقاء الله، فإن الخائب الذي دساها هو أيضاً باق ٍ، ولكن بإبقاء الله لا ببقاء الله، فإن المشرك الذي هو من أهل النار، ما يرى تخليص وجوده لله تعالى من أجل الشريك، وكذلك المعطل، وإنما قلنا ذلك لئلا يتخيل من لا علم له أن المشرك والمعطل قد أبقى الله الوجود عليهما، فـَبـَيَّنا أن إبقاء الوجود على المفلحين ليس على وجه إبقائه على أهل النار، ولهذا وصف الله أهل النار بأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، بخلاف صفة أهل السعادة، فإنهم في الحياة الدائمة، وكم بين من هو باق ببقاء الله وموجود بوجود الله، وبين ما هو باقٍ بإبقاء الله، وموجودٌ بالإيجاد لا بالوجود، وبهذا فاز العارفون لأنهم عرفوا من هو المستحق لنعت الوجود، وهو الذي استفادوه من الحق، ولذلك فإن التخلي عندنا هو التخلي عن الوجود المستفاد، لأنه في الاعتقاد هكذا وقع، وفي نفس الأمر ليس إلا وجود الحق، والموصوف باستفادة الوجود هو على أصله ما انتقل من إمكانه، فحكمه باق ٍ وعينه ثابتة. (ف ج1/551 - ج2/484)
أما عن الأسماء الإلهية فاعلم أن الأسماء الإلهية نسب غيبية، تعقل منها حقائق مختلفة، معلومة الاختلاف كثيرة، ولا تضاف إلا إلى الحق فإنه مسماها، ولا يتكثر بها، فلو كانت أموراً وجودية قائمة به لتكثر بها، فعلمها سبحانه من حيث كونه عالماً بكل معلوم، وعلمناها نحن باختلاف الآثار منها فينا، فسميناه كذا من أثر ما وجد فينا، فكثرت الآثار فينا فكثرت الأسماء، والحق مسماها، فنسبت إليه ولم يتكثر في نفسه بها، فعلمنا أنها غائبة العين، ولما فتح الله بها عالم الأجسام الطبيعية، باجتماعها بعد ما كانت متفرقة في الغيب، معلومة الافتراق في العلم، إذ لو كانت مجتمعة لذاتها، لكان وجود عالم الأجسام أزلاَ لنفسه لا لله، وما ثمَّ موجود ليس هو الله إلا عن الله، وما ثمَّ واجب الوجود لذاته إلا الله، وما سواه فموجود به لا لذاته، فبالتأليف مع بقية الحدود ظهر الجسم، فلما ظهر من ائتلاف المعاني صور قائمة بنفسها، وطالبة مَحَال تقوم بها كالأعراض والصفات، علمنا قطعاً أن كل ما سوى الحق، عرض زائل وغرض ماثل، وأنه وإن اتصف بالوجود وهو بهذه المثابة في نفسه في حكم المعدوم، فلا بد من حافظ يحفظ عليه الوجود وليس إلا الله تعالى، ولو كان العالم أعني وجوده لذات الحق لا للنسب، لكان العالم مساوقاً للحق في الوجود، وليس كذلك، فالنسب حكم لله أزلاً، وهي تطلب تأخر وجود العالم عن وجود الحق، فيصح حدوث العالم، وليس ذلك إلا لنسبة المشيئة وسبق العلم بوجوده، فكان وجود العالم مرجـَّحاً على عدمه، والوجود المرجَّحُ لا يساوق الوجود الذاتي الذي لا يتصف بالترجيح، ولما كان ظهور العالم في عينه مجموع هذه المعاني فكأن هذا المعقول المحدود عرض له جميع هذه المعاني فظهر، فما هو في نفسه غير مجموع هذه المعاني، والمعاني تتجدد عليه، والله هو الحافظ وجوده بتجديدها عليه، وهي نفس المحدود، فالمحدودات كلها في خلق جديد، الناس منه في لبس، فالله خالق دائماً، والعالم في افتقار دائم له في حفظ وجوده بتجديده، فالعالم معقول لذاته موجود بالله تعالى، فحدوده النفسية عينه وهذا هو الذي دعا الحسبانية إلى القول بتجديد أعيان العالم في كل زمان فرد دائماً، وذهلت عن معقولية العالم من حيث ما هو محدود، وهو أمر وهمي لا وجود له إلا بالوهم، وهو القابل لهذه المعاني، وفي العلم ما هو غير جميع هذه المعاني، فصار محسوساً أمر هو في نفسه مجموع معقولات، فأشكل تصوره وصعب على من غلب عليه وهمه، فحار بين علمه ووهمه، وهو موضع حيرة، وقالت طائفة بتجدد الأعراض على الجوهر، والجوهر ثابت الوجود وإن كان لا بقاء له إلا بالعرض، وما تفطن صاحب هذا القول لما هو منكر له، فغاب عنه شيء فجهله، وظهر له شيء فعلمه، وقالت طائفة أخرى بتجدد بعض الأعراض وهي المسماة عندهم أعراضاً، وما عداها - وإن كانت في الحقيقة على ما يعطيه العلم أعراضاً - فيسمونها صفات لازمة، كصفرة الذهب وسواد الزنجي، وهذا كله في حق من يثبتها أعياناً وجودية، وثـَمَّ من يقول إن ذلك كله نسب لا وجود لها إلا في عين المدرك لها، لا وجود لها في عينها، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني على ما وصل إلينا، والعهدة على الناقل، وأهل الكشف لهم الاطلاع على جميع المذاهب كلها والنحل والملل والمقالات في الله، اطلاعاً عاماً لا يجهلون منه شيئاً(2)، فما تظهر نحلة من منتحل، ولا ملة بناموس خاص تكون عليه، ولا مقالة في الله أو في كون من الأكوان - ما تناقض منها وما اختلف وما تماثل - إلا ويعلم صاحب الكشف من أين أخذت هذه المقالة أو الملة أو النحلة، فينسبها إلى موضعها ويقيم عذر القائل بها، ولا يخطئه ولا يجعل قوله عبثاً، فإن الله ما خلق سماء ولا أرضاً وما بينهما باطلاً. (ف ج3/397)
واعلم أن حاجة الأسماء إلى التأثير في أعيان الممكنات، أعظم من حاجة الممكنات إلى ظهور الأثر فيها، وذلك أن الأسماء لها في ظهور آثارها السلطان والعزة، والممكنات قد يحصل فيها أثر تضرر به وقد تنتفع به، وهي على خطر، فبقاؤها على حالة العدم أحب إليها لو خيرت، فإنها في مشاهدة ثبوتية حالية، ملتذة بالتذاذ ثبوتي، منعزلة كل حالة عن الحالة الأخرى، لا تجمع الأحوال عين واحدة في حال الثبوت، فإنها تظهر في شيئية الوجود في عين واحدة، فزيد مثلاً الصحيح في وقت، هو بعينه العليل في وقت آخر، والمعافى في وقت، هو المبتلى في وقته ذلك بعينه، وفي الثبوت ليس كذلك، فإن الألم في الثبوت ما هو في عين المتألم، وإنما هو في عينه، فهو ملتذ بثبوته، كما هو ملتذ بوجوده في المتألم، والمحل متألم به، وسبب ذلك أن الثبوت بسيط مفرد، غير قائم شيء بشيء، وفي الوجود ليس إلا التركيب، فحامل ومحمول، فالمحمول أبداً منزلته في الوجود مثل منزلته في الثبوت في نعيم دائم، والحامل ليس كذلك، فإنه إن كان المحمول يوجب لذة التذ الحامل، وإن أوجب ألماً تألم الحامل، ولم يكن له ذلك في حال الثبوت، بل العين الحاملة في ثبوتها، تظهر فيما تكون عليه في وجودها إلى ما لا يتناهى، فكل حال تكون عليها هو إلى جانبها ناظر إليها لا محمول فيها، فالعين ملتذة بذاتها والحال ملتذ بذاته، فحال الأحوال لا يتغير ذوقه بالوجود، وحال الحامل يتغير بالوجود، وهو علم عزيز، وما تعلم الأعيان ذلك في الثبوت إلا بنظر الحال إليها، ولكن لا تعلم أنه إذا حملته تتألم به، لأنها في حضرة لا تعرف فيها طعم الآلام، بل تتخذه صاحباً، فلو علمت العين أنها تتألم بذلك الحال إذا اتصفت به، لتألمت في حال ثبوتها بنظره إياها، لعلمها أنها تتلبس به وتحمله في حال وجودها، فتألفها به في الثبوت تنعم لها، وهذا الفن من أكبر أسرارعلم الله في الأشياء. (ف ج4/81)
إذا علمت هذا علمت أن عين العبد لا تستحق شيئاً من حيث عينه، لأنه ليس بحق أصلاً، والحق هو الذي يستحق ما يستحق، فجميع الأسماء التي في العالم ويتخيل أنها حق للعبد حق لله، جهلنا معناها بالنسبة إليه وعرفناها بالنسبة إلينا، فالاستحقاق بجميع الأسماء الواقعة في الكون الظاهرة الحكم، إنما يستحقها الحق، والعبد يتخلق بها، وأنه ليس للعبد سوى عينه، ولا يقال في الشيء إنه يستحق عينه، فإن عينه هويته، فلا حق ولا استحقاق، وكل ما عرض أو وقع عليه اسم من الأسماء، إنما وقع على الأعيان من كونها مظاهر فما وقع اسم إلا على وجود الحق في الأعيان، والأعيان على أصلها لا استحقاق لها، فالخلق عين بلا حكم، وكونه مظهراً حكماً لا عيناً، فالوجود لله، وما يوصف به من أية صفة كانت إنما المسمى بها هو مسمى الله، فإنه ما ثمَّ مسمى وجودي إلا الله، فهو المسمى بكل اسم، والموصوف بكل صفة، والمنعوت بكل نعت، فالكل أسماء الله، أسماء أفعاله أو صفاته أو ذاته، فما في الوجود إلا الله، والأعيان معدومة في عين ما ظهر فيها، فالوجود له والعدم لك، فهو لا يزال موجوداً وأنت لا تزال معدوماً، ووجوده إن كان لنفسه فهو ما جهلت منه، وإن كان لك فهو ما علمت منه، وما ظهر الحق إلا بما هو له، لا من صفات التنزيه ولا من صفات التشبيه، كل ذلك له، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان ما وصف نفسه به من ذلك كذباً، وتعالى الله، بل هو كما وصف نفسه من العزة والكبرياء والجبروت والعظمة ونفي المماثلة، كما وصف نفسه بالنسيان والمكر والخداع والكيد والفرح والمعية وغير ذلك، فالكل صفة كمال لله تعالى، فهو موصوف بها كما تقتضيه ذاته، وأنت موصوف بها كما تقتضيه ذاتك.
والعين واحدة والحكم مختلف والعبد يعبد والرحمن معبود
(ف ج2/54، 483)
لذلك يقول الشيخ الأكبر:
أسماء ربي لا يحصى لها عدد ولا يحـاط بهـا كـمثـل أســـمائي
إن قلتُ قلتُ به أو قال قال بنـا تداخـل الأمـر كالمرئي والرائي
العين واحـدة والحـكم مختـلف فانظر به منك في تلويح إيمائي
النـور ليــــس لـه لـون يميـزه وبالـزجـاج لـه الألـوان كالمــاء
المــاء ليــس لـه شــكل يقيـده إلا الوعــــاء وفـي تقييـده دائـي
(ديوان/218)
وإذا نظرت إلى طلب الحق تفويضك إياه بقوله ,فاتخذه وكيلاً-وإلى قوله تعالى ,وإليه يرجع الأمر كله-علمت أنه هو المكلـَِّف والمكلـَّف، فهو عين الموجودات إذ هو الوجود، فالعالم في جنب الحق متوهم الوجود لا موجود، فالموجود والوجود ليس إلا عين الحق، وذلك ذهاب العالم في وجود الحق، فلم يبق إلا عين وجودية، مذهبة حكمها وحكم ما ينسب من العالم إليها، ذهاباً كلياً عاماً عيناً وحكماً. (ف ج4/100، 40)
إفصاح بما هو الأمر عليه: اعلم أن الأمر حق وخلق، وأنه وجود محض لم يزل ولا يزال، وإمكان محض لم يزل ولا يزال، وعدم محض لم يزل ولا يزال، فالوجود المحض لا يقبل العدم أزلاً وأبداً، والعدم المحض لا يقبل الوجود أزلاً وأبداً، والإمكان المحض يقبل الوجود لسبب ويقبل العدم لسبب أزلاً وأبداً، فالوجود المحض هو الله ليس غيره، والعدم المحض هو المحال وجوده ليس غيره، والإمكان المحض هو العالم ليس غيره، ومرتبته بين الوجود المحض والعدم المحض، فبما ينظر منه إلى العدم يقبل العدم، وبما ينظر منه إلى الوجود يقبل الوجود، فمنه ظلمة وهي الطبيعة، ومنه نور وهو النـَفـَس الرحماني الذي يعطي الوجود لهذا الممكن، فالوجود الإمكاني بين نور وظلمة، وطبيعة وروح، وغيب وشهادة، وستر وكشف، فما ولي من جميع ما ذكرناه الوجود المحض كان نوراً وروحاً، وما ولي من جميع ما ذكرناه العدم المحض كان ظلمة وجسماً، وبالمجموع يكون صورة، فإن نظرت العالم من نفس الرحمن قلت ليس إلا الله، قال تعالى ,فإذا سويته ونفخت فيه من روحي-وإن نظرت في العالم من حيث ما هو مسوى معدل، قلت المخلوقات ,وما رميت-من كونك خلقاً ,إذ رميت-من كونك حقاً ,ولكن الله رمى-لأنه الحق، فبالمجموع تحقق الكون، وبترك المجموع قيل حق وخلق، فالحق للوجود المحض، والخلق للإمكان المحض، ومع هذا فتحرير هذه المسألة عسير جداً، فإن العبارة تقصر عنها، والتصور لا يضبطها لسرعة تفلتها وتناقض أحكامها، وهي قوله ,وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى-فأثبت ونفى، فهذا حكم هذه المسألة بل هو عينها لمن تحقق. (ف ج2/426 - ج4/427 - ج2/216)
وأما قولنا إن النفس الرحماني هو الذي يعطي الوجود، فاعلم أنه لولا الحرج والضيق ما كان للنفس الرحماني حكم، فإن التنفيس هو إزالة عين الحرج والضيق، فالعدم نـَفـْسُ الحرج والضيق، فإنه يمكن أن يوجد هذا المعدوم، فإذا علم الممكن إمكانه وهو في حالة العدم، كان في كرب الشوق إلى الوجود الذي تعطيه حقيقته، ليأخذ بنصيبه من الخير، فنفـَّس الرحمن بنـَفـَسِه هذا الحرج فأوجده، فكان تنفيسه عنه إزالة حكم العدم فيه، وكل موجود سوى الله فهو ممكن فله هذه الصفة، فنـَفـَسُ الرحمن هو المعطي صور الممكنات الوجود، كما أعطى النفس وجود الحروف، فالعالم كلمات الله من حيث هذا النفس، كما قال تعالى ,وكلمته ألقاها إلى مريم-وهو عين عيسى عليه السلام، وأخبر أن كلمات الله لا تنفد، فمخلوقاته لا تزال توجد ولا يزال خالقاً، وصور العالم من أعلاه لطفاً إلى أسفله كثافة، لا يخرج كل صورة ظهر فيها عن كونه نفس الرحمن، فاختلاف العالم بأسره لا يخرجه عن كونه واحد العين في الوجود، فتحفظ من إثبات وجود عين زائدة، أو من نفي عيون كثيرة في غير وجود عيني، فأثبت الكثرة في الثبوت وانفها من الوجود، وأثبت الوحدة في الوجود وانفها من الثبوت، فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها، لأن نـَفـَس الرحمن عينه، ونفسه تعالى واحد لا يتكثر، فالوجود واحد لا يتكثر، إذ الحق هو الوجود ليس إلا. (ف ج2/459، 502، 505)
لذلك قلنا إن العالم في جنب الحق متوهم الوجود لا موجود، والموجود والوجود ليس إلا عين الحق.
إذا ما كنت عيني في وجودي وكـل قـواي أيـن أنـا وأنـتـا
فـإما أن يـكـون الشـأن عيني وإمـا أن يكـون الشــأن أنتـا
وإمـا أن أكــون أنــا بـوجــه ومن وجه سـواه تكـون أنتـا
فأنت الحرف لا يقرا فيدرى وأنـت محيـر الحيـران أنتـا
أرى عجزاً وذاك العجز عيني وجهـلا ً بالأمـور فأيـن أنتـا
فمـا أقـوى على تحصيـل علم ولا تقوى على التوصيل أنتا
فحرنا في وجود الحق عجزاً وحرت وعـزة الرحمـن أنتـا
فزال أنا وهو والأنت فانظـر إلى قـــولي إذا ما قـلـت أنتـا
فمن أعني بأنت ولست عيني ولا غيـري فحـرت بلفظ أنتـا
لأني لا أرى مدلـول لفـظـي ولا أنـا عـالــم من قـال أنتــا
أرى أمـراً تضمنه وجـودي وأنت تغـار منه وليــس أنتـا
فإن زلنا تقول فعلـت عبـدي فتثبتنــا بـأمـــر ليــــس أنتــا
فـقـل لـي مـن أنـا حتـى أراه فأعـرف هـل أنا أو أنت أنتـا
فـلـولا اللـه مـا كنــا عـبـيـداً ولولا العبـد لم تـك أنـت أنتـا
فــأثـبتنـي لـنثبتـكــم إلـهـــاً ولا تنـفـي الأنـا فيــزول أنتـا
(ف ج4/40)
ومن هنا يعرف قولنا إنه ما في الوجود إلا الله، والأعيان الإمكانية على أصلها من العدم، متميزة لله في أعيانها على حقائقها، وأن الحق هو الظاهر فيها من غير ظرفية معقولة، فيظهر بصورة تلك العين، لو صح أن توجد لكانت بهذه الصورة في الحس(3)، فوعزة من له العزة والجلال والكبرياء، ما ثمَّ إلا الله الواجب الوجود، الواحد بذاته الكثير بأسمائه وأحكامه، القادر على المحال، فكيف الإمكان والممكن وهما من حكمه؟! فوالله ما هو إلا الله، فمنه وإليه يرجع الأمر كله، كان الله ولا شيء معه، وهو الواحد، وهو الآن على ما عليه كان، فالذي ثبت له من الحكم ولا عالم، ثبت له والعالم كائن، فتلك الأحدية المطلقة له، في حال وجود العالم وفي حال عدمه، وذات الحق هي عين وجوده، وليس لوجوده مفتتح ولا منتهى، فإن الحق عين وجوده لا يتصف بالدخول في الوجود فيتناهى، فإنه كل ما دخل في الوجود فهو متناه، والبارئ هو عين الوجود ما هو داخل في الوجود، لأن وجوده عين ماهيته، وما سوى الحق فمنه ما دخل في الوجود فتناهى بدخوله في الوجود، ومنه ما لم يدخل في الوجود فلا يتصف بالتناهي، فمعنى القول بأن الحق هو عين الوجود، هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الله ولا شيء معه، يقول: الله موجود ولا شيء من العالم موجود.
(ف ج1/702، 703، 704 - ج4/6)
لذلك فإن الحقائق أعطت - لمن وقف عليها - أن لا يتقيد وجود الحق مع وجود العالم، بقبلية ولا معية ولا بعدية زمانية، فإن التقدم الزماني والمكاني في حق الله، ترمي به الحقائق في وجه القائل به على التحديد، اللهم إلا إن قال به من باب التوصيل، كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ونطق به الكتاب، إذ ليس كل أحد يقوى على كشف هذه الحقائق، فلم يبق لنا أن نقول إلا أن الحق تعالى موجود بذاته لذاته، مطلق الوجود غير مقيد بغيره، ولا معلول عن شيء، ولا علة لشيء، بل هو خالق المعلولات والعلل، والملك القدوس الذي لم يزل، وأن العالم موجود بالله تعالى، لا بنفسه ولا لنفسه، مقيد الوجود بوجود الحق في ذاته، فلا يصح وجود العالم البتة إلا بوجود الحق، وإذا انتفى الزمان عن وجود الحق، وعن وجود مبدأ العالم، فقد وجد العالم في غير زمان، فلا نقول من جهة ما هو الأمر عليه، إن الله موجود قبل العالم، إذ قد ثبت أن القبل من صيغ الزمان، ولا زمان، ولا أن العالم موجود بعد وجود الحق إذ لا بعدية، ولا مع وجود الحق، فإن الحق هو الذي أوجده وهو فاعله ومخترعه ولم يكن شيئاً، ولكن كما قلنا: الحق موجود بذاته والعالم موجود به، فإن سأل سائل ذو وهم: متى كان وجود العالم من وجود الحق؟ قلنا: متى سؤال زماني، والزمان من عالم النسب، وهو مخلوق لله تعالى، لأن عالم النسب له خلق التقدير لا خلق الإيجاد، فهذا سؤال باطل فانظر كيف تسأل، فإياك أن تحجبك أدوات التوصيل، عن تحقيق هذه المعاني في نفسك وتحصيلها، فلم يبق إلا وجود صرف خالص لا عن عدم، وهو وجود الحق تعالى، ووجود عن عدم عين الموجود نفسه، وهو وجود العالم، ولا بينية بين الوجودين، ولا امتداد إلا التوهم المقدر، الذي يحيله العلم ولا يبقي منه شيئاً، ولكن وجود مطلق ومقيد، وجود فاعل ووجود منفعل، هكذا أعطت الحقائق. (ف ج1/90)
فالوجود المستفاد في حكم العدم، والوجود الحق من كان وجوده لنفسه، وكل عدم وجد فما وجد إلا من وجود كان موصوفاً به لغيره لا لنفسه، والذي استفاد هو الوجود لعينه، وأما المحال فهو الذي لا وجود له لا لنفسه ولا من غيره. (ف ج1/175)
ولذا يقول في الوجود الحق:
إنـــي رأيـت وجــــــوداً لا يقيــــده نعـت ولا هـو محـدود فـينحـصــر
في الحد وهو الذي في الحد يعرفه ومـا لـه في الذي يـدري به خبــر
تنـزهـت ذات من قـد حـار طالبـها سـبحانه جـلَّ أن تحظى به الفكــر
أقـــامني مـَثـَـلاً مـِثـْـلاً(4) ونـزهني عن كل شيء فلم يظهر بي النظر
هو الوجود الذي في كـونه ســـــند لـخــلقه ولـه ســــمع هـو البصــر
إنـي لـعـبــد لمـن كـــانت هـويتــه عيني وما أنا عين الحق فاعتبروا
لـو كنتـه لـم أكـن بالعجـز متصفـاً عن كون ما تظهر الأسباب والقـُدر
ولـم يكـن حــاكـمـاً على تصرفنـا ســـر يقــال لــه في عـلمنا القــدر
إنـي عـبـيـــد فـقـيـــر فــي تقلبــه هذي نعوتي وأما اسـمي هو البشر
ووالـــدي آدم والـــكـل مـتـصــف بـعـجـــزه لـلـــذي إلــيه يـفـتـقـــر
فغــايتي الفقــر والتنــزيه غــــايته عن غايتي والغنى عني هو الوزر
أعطيته الوصف من ذاتي فلي شرف بــه تنـــزلت الآيـــات والســــــور
لـولاي ما ظهرت في الصـور نفخته فالروح من نفـس الرحمن فادكروا
هـــذا الـــذي قلته، الوحي يعـضدني فيــه فقـد جـــاءكم مـــا فيه معتبـر
لـــو كنت ذا بصـر لــكنت معتبــراً كــذا يقول الإلـــه الحــق فافتكروا
(ديوان /377)
وإطلاق لفظة الموجود على الحق المعقول عندنا تجوُّز، إذ من كان وجوده عين ذاته، لا تشبه نسبة الوجود إليه نسبة الوجود إلينا، فإنه ليس كمثله شيء، فإن الوجود هو الله، وهو واجب الوجود لنفسه، ونحن واجبون به لا بأنفسنا، فبهذه الدرجة يتميز عنا ونتميز عنه، وهو ما أجمع عليه الرب والمربوب، في أن الله خالق والعبد مخلوق.
(ف ج1/602 - ج2/309، 38، 167، 166)
وليس أوضح مما يذكره الشيخ عن مذهبه، وعن نـَفـَــِس أهل التحقيق من أهل الكشف والوجود فيقول:
الجزء الثاني من الفتوحات المكية ص309.
الوجود الذي هو أصل الأصول هو الله تعالى، إذ به ظهرت مراتب الوجود (وهو الوجود العيني والذهني والرقمي واللفظي) وتعينت هذه الحقائق، وبوجوده تعالى عـُرِفَ مـَنْ يقبل مراتب الوجود كلها ممن لا يقبلها.
الجزء الثاني من الفتوحات المكية ص311.
إذا علمت أن الحق هو الناطق والمحرك والمسكن والموجد والمذهب، علمت أن جميع الصور بما ينسب إليها مما هو له، خيال منصوب، وأن حقيقة الوجود له تعالى، ألا ترى إلى واضع خيال الستارة، ما وضعه إلا ليتحقق الناظر فيه علم ما هو أمر الوجود عليه، فيرى صوراً متعددة حركاتها وتصرفاتها وأحكامها لعين واحدة، ليس لها من ذلك شيء، والموجد لها ومحركها ومسكنها بيننا وبينه تلك الستارة المضروبة، وهو الحد الفاصل بيننا وبينه، به يقع التمييز، فيقال فيه إله، ويقال فينا عبيد وعالـَمٌ، أي لفظ شئت.
الجزء الثاني من الفتوحات المكية ص313.
الحقائق لا تتبدل، وحقيقة الخيال التبدل في كل حال والظهور في كل صورة، فلا وجود حقيقي لا يقبل التبديل إلا الله، فما في الوجود المحقق إلا الله، وأما ما سواه فهو في الوجود الخيالي، وإذا ظهر الحق في هذا الوجود الخيالي، ما يظهر فيه إلا بحسب حقيقته، (أي حقيقة الخيال) لا بذاته التي لها الوجود الحقيقي، ولهذا جاء الحديث الصحيح بتحوله في الصور في تجليه لعباده، وهو قوله ,كل شيء هالك-فإنه لا تبقى حالة أصلاً في العالم لا كونية ولا إلهية ,إلا وجهه-يريد ذاته، إذ وجه الشيء ذاته، فلا تهلك، أين الصورة التي تحول فيها من الصورة التي تحوّل عنها؟! هذا حظ الصورة التي تحول عنها من نسبة الهلاك إليها، فكل ما سوى ذات الحق فهو في مقام الاستحالة السريعة والبطيئة، فكل ما سوى ذات الحق خيال حائل وظل زائل، فلا يبقى كون في الدنيا والآخرة وما بينهما، ولا روح ولا نفس ولا شيء مما سوى الله - أعني ذات الحق - على حالة واحدة، بل تتبدل من صورة إلى صورة دائماً أبداً، وليس الخيال إلا هذا، فهذا هو عين معقولية الخيال، فالعالم ما ظهر إلا في خيال فهو متخيل لنفسه.
فحقيقة الوجود لذات الله تعالى وحده، وهو واجب الوجود الذي لا يقبل الصور، وإنما يقبل التجلي في الصور في حضرة الخيال، فإن له الحكم بكل وجه على كل حال، في المحسوس والمعقول والحواس والعقول، وفي الصور وفي المعاني وفي المحدث وفي القديم، وفي المحال وفي الممكن وفي الواجب، فالله تعالى هو ملك الأملاك، ورب الأرباب، وسيد السادات، والكل عدم بوجوده، إذ هو الموجود على الإطلاق، الذي لا بداية لوجوده، ولا نهاية لبقائه، ولا ظاهر ولا باطن في علمه في حقه، بل الأشياء كلها قديمها وحديثها، أولها وآخرها، أسفلها وأعلاها، إنما ظهرت به، وإنما رجعت إليه منه، لا يخرج شيء منه إلا إليه.
مغازلة رقيقة وإشارة دقيقة، ردها البرهان ونفاها، وأوجدها العيان وأثبتها
فيـا أنـا مـا هـو أنـا ولا هـو مـا هـو هـو
الموجودات على تفاصيلها، ظهور الحق في مظاهر أعيان الممكنات، بحكم ما هي الممكنات عليه من الاستعدادات، فاختلفت الصفات على الظاهر، لأن الأعيان التي ظهر فيها مختلفة، فتميزت الموجودات وتعددت، لتعدُّد الأعيان وتميزها في نفسها، فما في الوجود إلا الله وأحكام الأعيان، وما في العدم شيء إلا أعيان الممكنات، مهيأة للاتصاف بالوجود، فهي لا هي في الوجود، لأن الظاهر أحكامها فهي، ولا عين لها في الوجود فلا هي، كما هو ولا هو، لأنه الظاهر فهو، والتميز بين الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحكام الأعيان، فلا هو
فـمـا ثـَمَّ إلا الله والـكـون حــادث ومـا ثـَمَّ إلا اللـه والـكـون ظـــاهــر
فما العلم إلا الجهل بالله فاعتصم بقـولـي فـإنـي عـن قـريب أســـافـر
وما ليَّ مـال غير علمي ووارث سوى عين أولادي فذا المال حاضر
(ف ج2/160)
هذه هي حقيقة وحدة الوجود عند الشيخ الأكبر قدس الله سره، يستند في ذلك إلى قوله تعالى ,كل شيء هالك إلا وجهه-وإلى فهمه رضي الله عنه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الله ولا شيء معه، وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: أصدق ما قالت العرب قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فمن فهم سعد وجنى ثمرة علمه، ومن لم يفهم فلا يشقى، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
والحمد لله رب العالمين
محمود محمود الغراب
(1) كتاب شرح كلمات الصوفية - محمود محمود الغراب - /ص 468 - 488
(2)عقد الخلائق في الإله عقائداً وأنا شهدت جميع ما اعتقدوه
(3)يستشهد الشيخ على ذلك بالحديث الوارد عن الحجر الأسود، أنه يمين الله في أرضه، فيقول: نحن نعلم أن يمين الله مطلقة ونحن في قبضتها، وما بيننا وبينها حجاب، لكن لما ظهرت في مظهر عين محصورة يعبر عنها بالحجر، قيدها استعداد هذه العين المسماة حجراً، لنسبة ظهور اليمين بها، فأثرت الضيق والحصر، مع أنها يمين الله لا شك، ولكن على الوجه الذي يعلمه سبحانه من ذلك، فصح النسب. (ف ج1/702)
(4)قوله مثـَلاً، يعني به ما جاء في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: خلق الله آدم على صورته، وأما قوله مـِثـْلاً فيعني به قوله تعالى ,ليس كمثله شيء-باعتبار الكاف كاف الصفة، أي ليس مثل مثله شيء.