نسخة تجريبيـــــــة
التصوف بين الحق والخلق

{ بسم الله الرحمن الرحيم }

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول رب العالمين.

دمشق في أول ربيع الآخر عام 1385هـ،

الموافق 29/7/1965

الأستاذ الفاضل محمد فهر شقفة:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، أكتب إليك امتثالاً لطلبك الذي ختمت به كتابك "التصوف بين الحق والخلق" الذي تقول في خاتمته أنك تقبل نقد الناقدين شريطة ان يتوجهوا إليك بالنقد العلمي الحر البعيد عن الهوى والغرض والحقد، وقلت أنك مستعد للرجوع إلى الحق إذا تبين لك بعد النقد والمناقشة وجود شيء من البطلان، وهذا يا أخي شيمة أهل العلم والعلماء أهل الإنصاف والتجرد وخصوصاً أنك وصفت نفسك أو وصفت كما سجل على غلاف كتابكم بالباحث الحر والناقد المجرد.

 

سيدي المحترم:

 

بعد أن قرأت كتابكم المشار إليه أو قل بعد أن يقرأ القارئ هذا الكتاب يتضح له أنك واحد من ناقدي الصوفية أو محاربيهم الآخذين عليهم مسلكهم الذي يبدو لك ولأعدائهم أنه مخالف للشريعة الإسلامية الغراء، ويرى القارئ أنك لم تأت بشيء جديد في نقدهم فإن كل أو جلّ ما في كتابكم منقول من المراجع التي أشرتم إليها، ومن العبث المناقشة في هذا الموضوع فإنك يا سيدي مهما بلغت في نقدهم فقد سبقك إلى ذلك من أهل العلم الأعلام الكثير مثل الإمام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، وتصدى للدفاع عن الصوفية ومحاربة مهاجميهم أعلام من أهل العلم مثل الإمام تاج الدين السبكي وأحمد بن حجر الهيثمي وغيرهما، ولذلك فإن البحث في التهجم على الصوفية أو الدفاع عنها لا يحل إشكاله كتابك ولا دفاع مثلي عنهم بعد كل ما دون وسطر في ذلك فلكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.

أما موضوع رسالتي هذه فهو البحث العلمي الصرف والتحقيق في النقل والموضوعية لا غير، ولذلك ستجد أن كلامي عن الصوفية سيكون بوجه عام، أما التحقيق فسيكون بخصوص ما أوردته في كتابكم عن الشيخ محيي الدين ابن العربي رضي الله عنه جاعلين مصدر تحقيقنا "الفتوحات المكية" النسخة المطبوعة في المطبعة الميمنية بمصر التابعة لدار الكتب العربية الكبرى عام 1329هـ وهي المطابقة للنسخة المخطوطة للمؤلف بخط يده ونقلاً عن النسخة التي أشرف عليها الأمير عبد القادر الجزائري ومجموعة من العلماء والنسخة الأصلية المخطوطة بيد المؤلف عام 636هـ فنقول:

لم يفرق الباحث الكريم في كتابه بين الصوفية والمتصوفة، والفرق بينهما شاسع كالفرق بين الكحل والتكحل، والخلق والتخلق، والعمل والتعمل، وهذه نقطة أردنا أن نستهل بها رسالتنا عسى أن يرجع إليها المؤلف فيعيد النظر في كل ما جاء في كتابه.

أما كلمة صوفي وصوفية وتصوف فهي كلمة استحدثت بعد الصدر الأول في زمان خاص ومكان خاص لمعنى خاص في ذلك الوقت، ثم بعد ذلك اختلف الناس في التعبير عن هذا المعنى كل بحسب فهمه إن كان من أصحاب النظر الفكري أو بحسب ذوقه إن كان من  أصحاب الذوق الوجداني، وليس في ذلك شيء من الغرابة فإن لكل زمان ومكان حكماً في استخدام الألفاظ المعبرة عن المعاني اللازمة لأهل الزمان أو أصحاب الفن الواحد.

تقول في كتابكم في ص15: قسـَّم الصوفية الناس إلى عامة وخاصة وهذه الطبقة الأخيرة هي الطبقة المختصة بتقبل هذه العلوم والعقائد (تعني ما يأتي به الصوفية).

فنقول:

إن الصوفية لم يقسموا الناس إلى عامة وخاصة بل الله هو الذي قسم الناس إلى خاصة وعامة وجعلهم أشكالاً مختلفة ومراتب متعددة فذكر منهم الرسل وجعل منهم أولي العزم وقال: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض"، وجعل من الناس النبيين وقال: "وكذلك فضلنا بعض النبيين على بعض"، وجعل من الناس أولياء فقال: "ألا إن أولياء الله"، وجعل من الناس العلماء فقال: "إن في ذلك لآيات للعالِمين"، وجعل من العلماء الراسخين فقال "والراسخون في العلم"، وجعل من الناس مراتب فقال "أولوا الألباب"، "المتقين"، "الصالحين"، إلى غير ذلك من المراتب الواردة في القرآن والسنة، فلم يقسم الصوفية الناس بل قسمهم خالقهم، ومما لا شك فيه ولا يقوله العاقل أن الناس تتساوى في مراتب العقول والفهم، وأن كل إنسان يفهم كل علم وكل فن من الأمور الكونية ناهيك عن العلوم الإلهية، فلا غرابة أن جعل الصوفية لعلومهم أهلا ً ومن الإنصاف أن نعترف لهم بأنهم جعلوا هذه الطبقة هي المختصة بتقبل هذه العلوم والعقائد كما تقول فإن هذا من الشروط العلمية المسلم بها ومن الشروط الشرعية إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم"، ويقول "أتحبون أن يكـَذ َّبَ الله ورسوله".

لقد ذكرتم في كتابكم المذكور تحت عنوان المصادر واحداً وستين مرجعاً لمؤلفكم للدلالة على سعة الاطلاع والتحقيق، وهذا لا شك أنه مجهود شاق ولكن يبدو أن كثرة هذه المراجع لهذا المؤلف البسيط جعلت من الصعب عليكم التحقيق العلمي وخصوصاً في نقل النصوص، وجعلت من الصعب عليكم فهم معاني العبارات، واختلط عليكم الأمر أو خضعتم لآراء بعض مؤلفي هذه المراجع، وإليك الأدلة من مراجعكم على تشويه نقل النصوص وعدم فهم معاني عبارات أتيتم بها في سياق الاستدلال لوجهة نظركم مع حسن ظننا بكم (وهذا ما أمرنا به) إنكم لم تتعمدوا تشويه النصوص أو حذف كلمات هي من أهم معاني العبارات:

في ص15 من كتابكم ذكرتم تقسيم الصوفية الدين إلى شريعة وحقيقة وظاهر وباطن وقلتم:

"أما أهل الباطن فهم أهل الحقيقة والطريقة وهم الخاصة من الناس الذين يعتمدون على تأويل النصوص الشرعية"، ثم سقتم مثالاً للفرق بين الشريعة والحقيقة والظاهر والباطن بما نقلتموه عن ابن العربي في كتابكم ص17 عن حكم لمس النساء، ومن بحثكم نرى أنه اختلط عليكم الأمر اختلاطاً لم يمكنكم من التعبير عن هذه المسألة بالعبارات البسيطة التي قالها ابن العربي في الفتوحات المكية فهو الذي يقول:

"ما ثم حقيقة تخالف شريعة لأن الشريعة من جملة الحقائق (ف.ب263ج4ص563 سطر13)، فهي حقيقة لكن تسمى شريعة وهي حق كلها والحاكم بها حاكم بحق مثاب عند الله لأنه حكم بما كلـِّف أن يحكم به وإن كان المحكوم له على باطل والمحكوم عليه على حق (ف.ب262ج2ص562 سطر17)، فعين الشريعة عين الحقيقة والشريعة حق ولكل حق حقيقة فحق الشريعة وجود عينها وحقيقتها ما تنزل في الشهود منزلة شهود عينها في باطن الأمر فتكون في الباطن كما هي في الظاهر من غير مزيد (ف.ب263ج2ص563 سطر5)، فالشريعة هي الحقيقة (ف.ج2ص563 سطر14)،

ويقول ابن العربي: "لما رأى القوم أنهم عاملون بالشريعة خصوصاً وعموماً ورأوا أن الحقيقة لا يعلمها إلا الخصوص فرقوا بين الشريعة والحقيقة فجعلوا الشريعة لما ظهر من أحكام الحقيقة وجعلوا الحقيقة لما بطن من أحكامها" (ف.ب263ج2ص563 سطر17) فالشريعة لب العقل والحقيقة لب الشريعة فهي كالدهن في اللب الذي يحفظه القشر فاللب يحفظ الدهن والقشر يحفظ اللب، كذلك العقل يحفظ الشريعة والشريعة تحفظ الحقيقة فمن ادعى شرعاً بغير عقل لم تصح دعواه فإن الله ما كلف إلا من استحكم عقله، ما كلف مجنوناً ولا صبياً ولا من خرف من الكبر، ومن ادعى حقيقة من غير شريعة فدعواه لا تصح (ف.ب559ج4ص419 سطر30).

هذا عرض بسيط عن الشريعة والحقيقة عند الصوفية أراك بعيداً عنه كل البعد، وهذا ما قاله ابن العربي الذي أردت أن تصوره بأنه باطني بإيرادك مثال حكم لمس النساء فنقلت في ص18 من كتابك (ب- من حيث الباطن) في حين أن الأصل "باب الحكم في لمس النساء" ثم يورد الشيخ ما أورده من حيث الظاهر ثم يقول: "وصل حكم اللمس في الباطن" ثم يورد باقي العبارة، كما أنه في الأبواب الأخرى يقول عند التعرض للباطن الذي سنورده لك ومعناه "الاعتبار في ذلك" أو "اعتباره في الباطن" أو "اعتبار حكمه في الباطن"، ويبدو أنك لم تهضم معنى هذه العبارات ولا وقفت على المقصود منها فإنك أظهرت في كتابك أن ابن العربي وغيره من الصوفية يصرفون الأحكام إلى الباطن ويتأولون النصوص الشرعية فتقول في ص15 من كتابك عن أهل الباطن الذين استشهدت على أقوالهم بكلام الشيخ ابن العربي "الذين يعتمدون على تأويل النصوص الشرعية والتأويل هو صرف النص إلى معنى لا يحتمله"

ولكي نوضح لك ما غمض عنك فيما يقصد ابن العربي وأمثاله من الصوفية بالباطن والظاهر نذكر لك ما قاله فهو القائل: "اعلم أن الله خاطب الإنسان بجملته وما خص ظاهره من باطنه ولا باطنه من ظاهره فتوفرت دواعي الناس أكثرهم إلى معرفة أحكام الشرع في ظواهرهم وغفلوا عن الأحكام المشروعة في بواطنهم إلا القليل فإنهم بحثوا في ذلك ظاهراً وباطناً فما من حكم قرروه شرعاً في ظواهرهم إلا ورأوا أن ذلك الحكم له نسبة إلى بواطنهم (هذا هو المقصود بقول ابن العربي الاعتبار في الباطن أو الحكم في الباطن أو الاعتبار في ذلك مما أشرنا إليه سابقاً)، أخذوا على ذلك جميع أحكام الشرائع فعبدوا الله بما شرع لهم ظاهراً وباطناً ففازوا حين خسر الأكثرون.

ونبغت طائفة ثالثة ضلت وأضلت فأخذت الأحكام الشرعية وصرفتها في بواطنهم وما تركت من حكم الشريعة في الظواهر شيئاً تسمى الباطنية وهم في ذلك على مذاهب مختلفة وقد ذكر الإمام أبو حامد في كتاب المستظهر له في الرد عليهم شيئاً من مذاهبهم وبيّن خطأهم فيها والسعادة إنما هي مع أهل الظاهر وهم في الطرف والنقيض من أهل الباطن والسعادة كل السعادة مع الطائفة التي جمعت بين الظاهر والباطن وهم العلماء بالله وبأحكامه" (ف.ب68ج1ص334 سطر24)،

"فالكامل من أهل الشرع هو الذي أحكم العلم والعمل فجمع بين الظاهر والباطن والناقص منهم هم الفقهاء الذين يعلمون ولا يعملون ويقولون بالظاهر ولا يعرفون الباطن كما قال تعالى: [يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون]" (ف.ب69ج1ص524 سطر4).

 

وهذا هو ما تراه أنت بعد اطلاعك على رأي الشيخ التهانوي وما سماه عبد الباري الندوي بالفقه الباطن وأعجبتَ به، فهل ترى أنك علمتَ المصدر الآن؟ وهل تنكر ذلك أو لا تراه بعد أن علمت رأي الشيخ ابن العربي؟

 

ويقول الشيخ ابن العربي عن الباطنية:

          وتجريد التوحيد يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع كالباطنية والعدول عما أراد الشارع بها وكل ما يؤدي إلى هدم قاعدة دينية مشروعة فهو مذموم بالإطلاق عند كل مؤمن، وإما أن يكون ظاهرياً محضاً متغلغلاً متوغلاً بحيث أن يؤديه ذلك إلى التجسيم والتشبيه فهذا أيضاً مثل ذلك ملحق بالذم شرعاً، فإما أن يكون جارياً مع الشرع على فهم اللسان حيثما مشى الشارع مشى وحيثما وقف وقف قدماً بقدم وهذه حالة الوسط وبه صحت محبة الحق له، قال تعالى أن يقول نبيه "فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم" فاتباع الشارع واقتفاء أثره يوجب محبة الله للعباد وصحة السعادة الدائمة (ف.ب148ج2ص240)،

وهو القائل:

فاسلك مع القوم أية سلكوا                  إلا إذا ما تراهم هلكوا

وهلكهم أن ترى شريعتهم                  بمعزل عنهم إذا سلكوا

فـاتركهم لا تقـل بقولهـم                     تأسـياً بالإلـه إذ تركوا

(ف.ب466ج4ص94سطر16)

هؤلاء هم الصوفية كما نعرفهم وهذا هو ابن العربي كما نعلم عنه ونشهد فيه.

===============================================

ومثال آخر مما جاء في كتابك في ص87 عند كلامك عن الحقيقة المحمدية فتقول:

يقول ابن عربي: بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية، الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي ولا أين يحصرها . . . إلخ،

والنسخة التي بين أيدينا والتي أشرنا إليها في بدء رسالتنا والتي نشير إليها بصفحاتها تحمل العبارة التالية في ج1ص118: "بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية ولا أين يحصرها لعدم التحيز . . . إلخ،

فمن أين هذه العبارة التي أوردتموها: (الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي)،

هذه العبارة التي بنيتم عليها استنتاجك من أنها تفسير ابن العربي لقوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" كما ذكرت في ص159 من كتابك أمثلة من تفسير الصوفية للقرآن فتقول: وقال ابن عربي في قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" الحقيقة المحمدية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني الإلهي.

 

أما عن تفسير القرآن عند الصوفية وعند الشيخ ابن العربي فإليك هو كما يقوله ابن العربي:

"إن الآية المتلفظ بها من كلام الله بأي وجه كان من قرآن أو كتاب منزل أو صحيفة أو خبر إلهي فهي آية على ما تحتمله تلك اللفظة من جميع الوجوه أي علامة عليها مقصودة لمن أنزلها بتلك اللفظة الحاوية في ذلك اللسان على تلك الوجوه فإن منزلها عالم بتلك الوجوه كلها وعالم بأن عباده متفاوتون في النظر فيها وأنه ما كلفهم من خطابه سوى ما فهموا عنه فيه فكل من فهم من الآية وجهاً فذلك الوجه هو مقصود بهذه الآية في حق هذا الواجد له وليس يوجد هذا في غير كلام الله وإن احتمله اللفظ فإنه قد لا يكون مقصوداً للمتكلم به لعلمنا بقصور علمه عن الإحاطة بما في تلك اللفظة من الوجوه (ف.ب266ج2ص567سطر20).

ولهذا كان كل مفسر فسر القرآن ولم يخرج عما يحتمله اللفظ فهو مفسر، ومن فسره برأيه فقد كفر، كذا ورد في حديث الترمذي ولا يكون برأيه حتى يكون ذلك الوجه لا يعلمه أهل ذلك اللسان في تلك اللفظة ولا اصطلحوا على وضعها بإزائه (ف.ج2ص567سطر28).

ولذلك يحرص ابن العربي رضي الله عنه عندما تأتي آية أو استشهاد بآية في سياق حديثه ويتكلم فيها عن معنى خاص من معاني أهل الخصوص أن يقول: "من باب الإشارة لا التفسير" أو: "إشارة لا تفسير" حتى لا يتخيل من هو مثلي ممن يتطفلون على قراءة كتب هؤلاء الخاصة أن ذلك تفسير لكلام الله تعالى، وإنما ذلك إشارة لمعنى خاص يعلمه أهل المراتب العليا الذين قـُصدوا بقراءة هذا الكلام ولم يقصد غيرهم.

وبذلك يصدق الأستاذ محمد فهر شقفة إن كان ما يقوله عن اعتقاد وصدق إيمان حيث يقول في ص 236 من كتابه: "والحق يقال أن الصوفية لا ينظرون للمعنى الحرفي للألفاظ وإنما يحملون الألفاظ إلى مالهم من معان خاصة في ذلك".

فهذا هو ما يسميه الصوفية من باب الإشارة وهي المعاني الخاصة في ذلك.

ومثال آخر من التحريف في النقلالذي يخل بالمعنى ما جاء في الصفحة نفسها رقم 87 من كتابكم في قولكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلاً عن الشيخ ابن العربي:

"وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه إمام العالم وسر الأنبياء أجمعين"،

وقد وجدنا هذه العبارة في النسخة التي بين أيدينا في ج1ص119:

"وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب وأسرار الأنبياء أجمعين"،

فأين هذا المفهوم من ذاك، وأي خلل دخل على المعنى وما هي مدى المسؤولية بين يدي الله على من يوقع مثل هذا التحريف وهذا التشويه في المعاني؟

ولذا فإني أنصح لكم بأن تراجعوا النسخة التي أشرتم إليها في مؤلفكم على نسخة معتمدة خالية من الشوائب والأخطاء، وعلى كل حال فذلك لا يخليكم من المسؤولية العلمية باعتباركم باحثاً حراً وناقداً مجرداً وعالماً تبتغي وجه الله في أن تتحقق العبارات قبل نقلها وتسطيرها فإنك لا شك من الوجهة العلمية المحضة مسؤول عما يقع منك من أخطاء في الاستدلال ولو كانت العبارات مدخولة أو مدسوسة فإن ذلك يقدح في تحقيقك العلمي.

 

أما قولك في ص31: وقد حمل محي الدين ابن عربي من أئمة التصوف في القرن السابع الهجري حملة قاسية على علماء الشريعة حتى شبههم بفراعنة الرسل واستشهدتَ بما قاله عنهم في الفتوحات المكية وهي عبارة صحيحة أوردها الشيخ، ولكنك لم تعلم وبالتالي لم تعط صورة لمن يعنيهم الشيخ بهذه الصفة، وإليك تعريف ذلك من كتب ابن العربي ومن هم الذين يعنيهم([1]

يقول:

"الناقص منهم هم الفقهاء الذين يعلمون ولا يعملون ويقولون بالظاهر ولا يعرفون الباطن"

وقد سبقت هذه العبارة في هذه الرسالة مشاراً إلى مصدرها،

ويقول:

"اعلم أنه لما غلبت الأهواء على النفوس وطلبت العلماء المراتب عند الملوك تركوا المحجة البيضاء وجنحوا إلى التأويلات البعيدة ليُمَشّوا أغراض الملوك فيما لهم فيه هوى نفس ليستندوا في ذلك إلى أمر شرعي مع كون الفقيه ربما لا يعتقد ذلك ويفتي به (ف.ب318ج3ص69سطر30)،

ومنها هذه العبارة التي أوردتموها في محاولة للاستدلال على عداء الصوفية لعلماء الشريعة، وهي مذكورة في سياق إنكار بعض هؤلاء العلماء على ما يأتي به القوم من المعارف والعلوم الإلهية، ولعل أعظم دليل على دحض هذه الدعوى ما قاله الشيخ ابن العربي في رسالته "روح القدس في محاسبة النفس" إذ يقول:

"فإياك يا أخي عافاك الله من الظن السوء من أن تظن أني أذم الفقهاء من أجل  أنهم فقهاء أو لنقلهم الفقه، لا ينبغي أن يظن هذا بمسلم، وإن شرف الفقه وعلم الشرع لا خفاء به، ولكن أذم من الفقهاء الصنف الذي تكالب على الدنيا وطلب الفقه للرياء والسمعة، وابتغى به نظر الناس ليقال، ولازم المراء والجدال وأخذ يرد على أبناء الآخرة الذين اتقوا الله فعلـَّمهم الله من لدنه علماً، فأخذت الفقهاء – أعني هذا الصنف منهم – في الرد عليهم في علم لا يعلمونه ولا عرفوا أصوله، ولو سئل أحدهم عن شرح لفظة مما اصطلح عليه علماء الآخرة ما عرفها وكفى به جهلاً، ولو نظر في قول الله تعالى: "ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم" الآية، لاعتبر وتاب، وقد ذمَّ النبي صلى الله عليه وسلم العلماء الذين طلبوا العلم لغير الله وتصرفوا به في غير مرضاة الله لا لكونهم علموا، كما مدح الصنف الآخر من العلماء بالخشية وغير ذلك، كما أني قد ذممت الصوفية في كتابي هذا ولم أرد به الصادقين وإنما أعني الصنف الذي تزيا بزيهم عند الناس وباطنه مع الله بخلاف ذلك، قال الله تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه" الآية، فلا أنكر مرتبة الفقه وقد سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، ولما كان هذا الصنف من الفقهاء غلبت عليه نفوسهم وشهواتهم واستولى عليهم الشيطان وعلى أيديهم جرى الضرر على أولياء الله، وبشهادتهم هلكوا كما سيأتي في آخر الكتاب هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما العلماء العاملون المنصفون الراسخون في العلم فهم السادة الذين هداهم الله فهم مصابيح الهدى وأعلام التقى وارثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العلم والعمل والإخلاص والوصف الذي صح لهم به نسب التقوى، فإذا سمعتني أذم الفقهاء في كتاب فإنما أعني به هذا الصنف المـُدْبـِر الذي اتبع شهوته وغرض نفسه الأمارة بالسوء، وكذلك ذمي للصوفية إنما أذم هذا الصنف الذي ذكرت، فإن الحلولية والإباحية وغيرهم من هذا الطريق ظهروا وتظاهروا بالدعاوى واتصفوا فهم قرناء الشيطان وحلفاء الخسران، نوَّر الله بصائرنا وبصائرهم وأصلح سرائرنا وسرائرهم، وأوقفهم على عيوبهم لعلهم يرجعون".

فهل يكتفي الأستاذ الباحث عن هذه الحقيقة بهذا التعريف والتعبير الواضح على لسان ابن العربي رضي الله عنه ليزيل اللبس الذي دخل عليك من عداء الصوفية لعلماء الشريعة وإن شئت أن نزيدك لزدناك.

 

ننتقل من ذلك إلى موضوع آخر وهو بحث العلم:

حاولتَ بما أوردته نقلاً من "عوارف المعارف على هامش الإحياء" بعبارة موجزة بسيطة في ص15 إعطاء صورة (مهزوزة) عن مصدر العلم الذي يعتمد عليه الصوفية، ثم أردفت ذلك بمناقشتك لابن خلدون في ص27 وما بعدها فلم توضح المصدر الحقيقي الذي يعتمد عليه الصوفية وهذه المصادر هي:

قوله تعالى: "واتقوا الله ويعلمكم الله"، وقوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له فرقانا"،

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم"،

هذه مصادر العلم المكتسب عند الصوفية ناهيك عن العلم الموهوب وهو العلم اللدني للخضر وأمثاله من عباد الله من قوله تعالى: "عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً"،

هذه هي المصادر العلمية التي يعتمد عليها الصوفية اعتماداً كلياً في معرفة جميع العلوم وعليك أنت أن تحدد ما هي العلوم التي تمنح من هذا الطريق وما هي العلوم التي يستحيل منحها، كما يمكنك أن تحدد ما هو الذي يمكن أن يكرم الله به عبده المؤمن الصالح التقي النقي مما لا يمكن أن يكرمه به وأن تضع لذلك حدوداً وتأتي لها بالأدلة الشرعية والعقلية والنقلية.

         

ثم ننتقل إلى تحقيقك العلمي وهو ما أوردته في ص16 تعليقاً على ما أورده مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه، وهو ما استشهد به الشيخ ابن العربي في تصحيح بعض الأحاديث عن طريق رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام،

يقول مسلم في معرض التحقق من رواية الحديث:

"اعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع"،

ثم يستطرد مسلم في الاستدلال بما روى له من الجرح في بعض الرواة ثم يذكر هذا الحديث:

"وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر قال سمعت أنا وحمزة الزيات من إبان بن أبي عياش نحواً من ألف حديث، قال علي: فلقيت حمزة فأخبرني أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فعرض عليه ما سمع من إبان فما عرف منها إلا شيئاً يسيراً خمسة أو ستة".

تقول أنت في تعليقك "لم نجد في مقدمة مسلم ما يدل على جواز استعمال هذه الطريقة في تخريج الأحاديث ولم يتبع هذه الطريقة مسلم نفسه"،

فهل ذكر مسلم الحديث المذكور أعلاه من باب اللغو والحشو في كتابه أو إخباراً بأن حمزة الزيات قد رأى النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهل كتاب مسلم في صحيح الأحاديث موضوع لذكر من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام؟

هذا يدل على عدم التحقق فيما أورده مسلم وعلى خطأ فاحش في الاستنتاج فإن مسلماً قد أورد هذا الحديث مستدلاً به على جرح إبان بن أبي عياش وعدم جواز الرواية عنه، ومستدلاً به على تصحيح الرواية عن طريق رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام عن طريق الثقة مثل حمزة بن الزيات الذي ثبت عند مسلم أنه من الثقات فاستشهد بما روى له عنه نقلاً من ثقة عن ثقة ([2]).

 

أما من الناحية الموضوعية في الحديث:

ما هو الحكم عندك في نفسك إذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لك عن حديث ضعيف أنه صحيح عنه، أو قال لك عن حديث صحيح عندك انه لم يقله؟ فما هو الحكم عندك في هذه المسألة وأنت تقول أنك تؤمن بأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق؟

فإن قلت أنك ملزم بامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخبرك عنه لأن رؤيا النبي حق والشيطان لا يتمثل به، فقد نقضت ما قلت من أنك لا ترى إجازة هذه الطريقة،

وإن قلت أنك تتوقف في الأخذ بما يقوله لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تنفيه باعتبار أن المسطر عندك من تصحيح وتضعيف يخالف ما قاله لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فأنت مكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تدعي أنك مؤمن به – فما هو الحكم عندك؟

أما قولك أن هذه الطريقة تفتح باب الكذب على لسان النبي الكريم فصحيح،

وما أحسن ما قاله الشيخ ابن العربي في هذا الموضوع لو كنت حققت مراجعك، فهو يقول عن علماء الشريعة الذين لم يروا الأخذ بالتصحيح عن طريق رؤيا الغير:

"غير أنهم رضي الله عنهم لو فتحوا هذا الباب على نفوسهم لدخل الخلل في الدين من المدعي صاحب الغرض فسدوه وقالوا إن الصادق من هؤلاء لا يضره سدنا هذا الباب، ونعم ما فعلوه، ونحن نسلم لهم ذلك ونصوبهم فيه ونحكم لهم بالأجر التام عند الله، ولكن إذا لم يقطعوا بأن ذلك مخطئ في مخالفتهم، فإن قطعوا فلا عذر لهم"،

هذا هو حكم المؤمن المصدق بأن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وإن أردت الزيادة في هذا الموضوع فارجع إلى بحث الشيخ في الفتوحات ب318ج3ص70سطر23، ب419ج4ص27سطر28، ب540ج4ص184سطر8، ب559ج4ص369سطر31، تجد فيها الحكم الصحيح والتصديق الكامل.

 

=================================================

 

ونعود ثانياً إلى نهج التحقيق العلمي الذي هو مقصود لكفإنك نقلت في ص46، ص93 من كتابك أن ابن العربي يقول:

"أنه هضم ما درس من الفلسفة اليونانية ومن أصول الديانة اليهودية والديانة النصرانية والديانة الإسلامية ثم أحال ذلك كله إلى مزاج من الفكر الفلسفي الدقيق يعز على من رامه ويطول"،

وتعزو ذلك إلى كتاب "التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق" ج1ص201،

وليس هذا أيها الأخ الكريم بالنهج العلمي ولا التحقيق الشرعي فإنه يلزمك أن تسند هذا الكلام إلى مرجعه الأصلي من مؤلفات ابن العربي فإن هذا الكلام على ما يبدو من رأي مؤلف كتاب "التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق" وهو حر فيما يبديه، ولكن أن تنقل أن ابن العربي يقول، يلزمك الإشارة إلى المصدر الذي يكون ابن العربي مسؤولاً عنه، وأظنك تعجز كما يعجز صاحب "التصوف الإسلامي" عن أن يسند ذلك إلى ابن العربي لأمور بسيطة فإن هذه العبارة تخالف أسلوب ابن العربي في الكتابة، كما تخالف مبادئه التي يتكلم عنها في جميع كتبه عن العلم وعن التدوين والتأليف، ولذا فنحن ننتظر منك أن تتكرم بإرشادنا إلى المصدر الذي قال فيه ابن العربي هذه العبارة.

أما قولك في باب الجنة والنار في ص113 أن ابن عربي في رأيه أن النار ليست بعذاب ولا نعيم ثم تنقل جملة من الفتوحات ج1ص384 ثم تقول في ص114 من كتابك "وفي رأي ابن عربي أن نهاية أهل النار للنعيم" وتنقل جملة مقتضبة من الفتوحات ج1ص395 ثم تستخلص من ذلك في ص116 من كتابك ما يروق لك من انعدام شعور الناس برهبة العذاب وشدة الآلام الحسية وجسامة العذاب ... إلخ،

فنقول:

اعلم يا أخي أن عرضك الآراء بهذه الصورة المشوهة لا يختلف كثيراً عمن يقول قال تعالى: "ولا تقربوا الصلاة"، أو من يقول "ويل للمصلين"، وفي هذا ما لا يخفى عليك، وباعتبارك قد جعلت الفتوحات مصدراً من مصادر مؤلفك كان يجب عليك أن تراعي أمانة النقل كما أوضحنا لك في الصفحات السابقة وأن تراعي عرض آراء ابن العربي بطريقة تنم عن أنك فهمت وحصّلت آراءه، ولذلك فأنا ألخص لك رأي ابن العربي في ذلك ثم أشير إلى مصادر ذلك في الفتوحات من النسخة التي أشرنا إليها:

يرى ابن العربي ويعتقد أن رحمة الله وسعت كل شيء وأن رحمته سبقت غضبه ولذلك فإن الرحمة الإلهية لا بدَّ أن تعم جميع الخلق في المآل بعد انقضاء فترات العذاب والجزاء على قدر الأعمال وأن الآخرة داران: دار السعادة لأهل السعادة، ودار الأشقياء لأهل الشقاء والخذلان، ويرى عدم سرمدة العذاب والآلام لأهل النار الذين هم أهلها والذين لهم الخلود في النار وليسوا منها بمخرجين فإن عدل الله ورحمته يأبيان أن يعذب خلقاً خلقه وقدر عليه ما قدره إلى  أبد الآبدين، ولكن يعذبه بقدر ما نسب إليه من المخالفة تطهيراً له من الذنوب وتأديباً له على مخالفته،

وخلاصة عقيدة ابن العربي في هذا الموضوع:

1-    أن النار إحدى الدارين الباقيتين أبد الآبدين،

2-    أن أهل النار الذين هم أهلها لهم الخلود الدائم فيها وليسوا منها بمخرجين،

3-    أن العذاب الحسي الذي يتبعه العذاب المعنوي له مدة محدودة ينقضي بعدها العذاب ثم تعم الرحمة أهل النار في النار،

4-    أن صورة النار ومخلوقاتها من حيات وعقارب لا تتبدل بعد أن تعم الرحمة،

5-  أن الله يخلق لأهل النار الذين هم أهلها مزاجاً خاصاً يتنعمون به بعد انقضاء فترة العذاب بصورة النار ومخلوقاتها، في الوقت الذي يراهم فيه أهل الجنة وكأنهم يتعذبون ولذلك فإن العذاب لا يتسرمد.

وليس معنى ذلك أنه يهوِّن من عذاب النار وشدة الآلام الحسية إلى آخر ما تقول فإنه القائل في ج4ص274 مستعيذاً بالله من النار وملخصاً ما أوضحنا لك:

أعوذ بالله من النار ومما يقرب إليها

فكــل مكــان فيـه أهــل يخصـه                     لهــم رحمـة فيهـا نعيـم ولـذات

وإن كـان مكـروهــاً يعود محبـاً                     لمزج لهم فيه ســــرور وجنات

فجنـة أهل النـار بالنـار عينهــا                      وبالقر إعطاء قد أعطتهم الذات

فإن اسمه الرحمن في عرشه استوى                فـرحمته عمـت وبالخلق تقتـات

أما مراجع ذلك من الفتوحات فإليك هي:

ج1: ص114، ص169 وفيها ما يكفي لهدم ما صورته عن رأي ابن العربي، ص189، ص263، ص656، ص749.

ج2: ص73، 127، 139، 141، 148، 169، 171، 172، 206، 207، 213، 220، 244، 245، 251، 279، 281، 328، 329، 363، 408، 437، 439، 486، 504، 535، 542، 565، 673، 689

ج3: ص24، 25، 75، 76، 77، 109، 120، 175، 176، 183، 204، 207، 238، 245، 346، 382، 411، 436، 440، 455، 461، 462، 463، 465، 478، 495، 512، 550، 552

ج4: ص14، 29، 48، 119، 120، 137، 247، 248، 274، 277، 284، 290، 304، 338

 

واعلم أن عقيدة الشيخ ابن العربي مستمدة من فهمه للقرآن وآياته تفسيراً وما ورد وصح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من حيث الكشف، فإذا كنت ترى أن هذه العقيدة وهي عقيدة الصوفية رغم تشويهك لها في باب الجنة والنار وتقول في ص114 "وهذه عقيدة خطرة جداً على المجتمع والأخلاق والدين"، فما هو رأيكم فيمن يقول بفناء النار وفناء أهلها وهو الإمام السلفي أحمد ابن تيمية (راجع عقيدة ابن تيمية وما جاء في كتاب جلاء العينين في محاكمة الأحمدين للآلوسي).

أما ما أوردته في ص48 نقلاً عن الشيخ ابن العربي من "مصرع التصوف" منقولا من "فصوص الحكم"، وكذلك ما نقلته من نفس المصدر في ص80 فهو كلام للشيخ ابن العربي استشهدت به على عقيدة الشيخ والصوفية في التثليث والحلول، ولو راجعت هذه العبارات ومصدرها الأساسي وشرحها في الفتوحات المكية لعلمت أنك وصاحب "مصرع التصوف" بعيدان كل البعد عن فهم هذه العبارات كما سنوضح لك بعد عند سؤالنا لك عن مفهوم أول كلمة من الفتوحات المكية، فالذي استشهدت به على التثليث إنما جاء في معنى أن حب الرجل وهو الفاعل، للمرأة وهي المنفعلة عنه، منبعث من حب الله وهو الخالق للرجل وهو أول مخلوق من البشر، ثم يتوسع المعنى في هذا الحب بما هو مشروح في ثنايا الفتوحات ومما تضيق هذه الرسالة عن شرحه وفيها يشير الشيخ الأكبر إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبب إليه من الدنيا النساء.

أما الذي استشهدت به على الحلول فرغم ما سيق في هذه الرسالة من ذم الشيخ ابن العربي للحلولية وتسميته لهم بالإباحية كما جاء في "الفتوحات" و"رسالة روح القدس" مما تجده مشاراً إليه في هذه الرسالة فإن الشيخ يشير إلى معنى سام وهو أن هناك من البشر وهم الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه وبعض الأولياء الذين بلغوا المراتب العليا من الكمال لا يغيبون عن الحضور مع الله ومراقبته ومشاهدته في نعمه التي ينعم بها عليهم ومنها نعمة الوقاع فحضورهم مع الله في الوقاع ومراقبتهم إياه سبحانه وتعالى في ذلك الموطن وفي تلك الحالة عبادة في أثناء إعطاء أنفسهم حقها وحظها الجنسي والنفسي والحيواني، وأظنك أنك تقر معي يا أخي أنني وأمثالي من عباد الله بعيدون كل البعد عن هذا الحال لا ذوق لنا فيه، وبالتالي لا فهم لما يعبر به ابن العربي عن ذاك المقام لأهله.

ثم تقول في باب المشاهدة ص242: ويتحدث ابن العربي في كتبه عن كثرة مشاهداته الله سبحانه وتعالى وتكليمه له وتستشهد على ذلك بما تورده وهو صحيح كما نقلته والعبارة هي: "في واقعة رأيت الحق فيها فخاطبني . . . إلخ"

ثم تقول تعليقاً: والمشاهدة مستحيلة شرعاً في الحياة الدنيا،

فنقول: هل تعلم يا سيدي ما معنى كلمة الواقعة، وما هي في اصطلاح الصوفية حتى ترى إذا كان يصح تعليقك أم لا يصح، فإني لم أجد هذه الكلمة في الستة والأربعين اصطلاحاً التي أوردتها تحت عنوان مصطلحات صوفية ص65 من كتابكم، فإن كنت لا تعلم فإليك ما قاله ابن العربي تعريفاً لمعنى كلمة الواقعة في كتابه الفتوحات المكية ج3ص103 يقول:

"الوقائع للفقراء هي المبشرات والرؤيا الصادقة ما هي بأضغاث أحلام وهي جزء من أجزاء النبوة"، فمثلاً يقول في ج1ص714:

"واقعة وقعت لنا في ليلة كتابتي فصل الجمعة بعرفة، كنت أرى فيما يرى النائم . . ."،

وفي ج4ص354 يقول:

"ولقد رأيت هذه الليلة في واقعتي ما شيَّب سالفتي وقد نظمت ما رأيته وفي هذا الباب كتبته وفي النوم قلته"،

هذا معنى الواقعة فهل رؤية الحق سبحانه وتعالى ممنوعة شرعاً في الرؤيا؟ وهل هذا كما تقول في أول سطر من الباب: "إن المشاهدة هي رؤية الله سبحانه وتعالى بالأبصار"؟

فهل رؤية الحق عندك في النوم تعتبر رؤية بالبصر يستحيل وقوعها في الحياة الدنيا؟ لا نعتقد ذلك ولا نظنك تذهب إليه رغم تضعيف الحديث الوارد عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للحق في المنام، وهناك كثير من الروايات عن رؤية الصالحين للحق في النوم، منهم ما روي عن الإمام أحمد بن حنبل.

         هذا مختصر بسيط عما جاء في بعض كتابك منقولاً عن الشيخ ابن العربي ولو تتبعتُ كل ما جئت به لطالت الرسالة ولأصبحت كتاباً ولا داعي لذلك إذا كان الغرض الإنصاف وإظهار الخلل في التحقيق فإن مسألة واحدة مما أوردناه كافية لإعادة النظر في كل ما جئت به إن كنت تبحث حقيقة للعلم المجرد البعيد عن الهوى والغرض والحقد كما تدعيه في ختام كتابك.

 

===========================================

ثم ننتقل إلى إشارات من بعض كتابك:

ذكرت في كتابك في باب أوائل الصوفية ص22 مدخلاً للبحث أتيت فيه على ذكر عبد الله بن سبأ اليهودي، وفيروز الفارسي أبي لؤلؤة، ويعقوب بن كلس وذلك للدلالة على عداء اليهود والفرس للإسلام، ثم أعقبت ذلك بذكر ثلاثين شخصاً من كبار الصوفية كلهم أو جلهم (عدا الحسين بن منصور الحلاج الذي قتل) مما تفيض الكتب والمؤلفات بذكر فضائلهم وتقواهم وعبادتهم مثل إبراهيم ابن أدهم والفضيل بن عياض وبشر الحافي والجنيد بن محمد والسري السقطي وجميع من ذكرتَ، وتعمدت أن تشير إلى أصلهم وأنهم جميعاً من أصل فارسي كأنك تغمز وتشير إلى أنهم من أعداء الإسلام الذين اندسوا عليه لمحاربته وهذه لفتة غير كريمة، ودس لا يصدر عن شخص يخشى الله في عباده، وهل كانت التقوى في يوم من الأيام وقفاً على العرب، وهل الإسلام مخصوص بالعرب، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، و(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، وعلى أي حال فليس ظنك وتعريضك بمن أجمع عليه أهل السيَّر بالتقوى والفضل بمستغرب فإنك قد عرضت بمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب وهو أويس القرني، وكان الأجدر بك في مجال التحقيق أو قل النقل القائم عليه كتابك أن تذكر ما ورد عنهم أو أثر عنهم من مثالب ومخالفة للشريعة من تحليل حرام أو تحريم حلال، ولكنك عندما عجزت عن ذلك رأيت أن تشير إلى أن أصلهم فارسي والفرس وراء معظم الفتن والعقائد الفاسدة.

         استشهدت على آرائك في الصوفية باعتبارهم فئة ساقطة من أعداء الإسلام المندسين عليه وأنهم جواسيس ومن أهل البطالة والبدع وأنهم يروِّجون للحشيش ويتعاطونه إلى غير ذلك من الأوصاف، ولا جدال لنا معك فيما تذهب إليه، ولكن الذي يجب أن نشير إليه أن أغلب استشهادك مستند إلى الدكتور زكي مبارك ثم تقول في ص121 من كتابك "الدكتور زكي مبارك وهو من المتصوفة في القرن الحاضر" فهل هذا على سبيل المدح أو الذم؟ فإن كانت عقيدتك في الدكتور زكي مبارك رحمه الله وعفا عنه أنه من هذه الفئة الساقطة فكيف تستدل بكلامه، وكلام الساقط ساقط لا يستدل به، وإن كان كلامك على سبيل المدحة وأن هناك فئة من الصوفية تراها صالحة وتجلها ومنهم الدكتور زكي مبارك الصوفي في اعتقادك ومذهبك فأظنك تجهل كل الجهل من هو الدكتور زكي مبارك، ولو راجعت سيرته ومسلكه ونهايته ولو سألت أهل العلم من أرباب الأدب والفنون عنه لعرفت أنك أخطأت الدليل وأنه طبقاً لقواعد الجرح والتعديل لا يجوز الاستشهاد بكلمة من كلماته رحمه الله تعالى ولاختصرت ثلث كتابك على الأقل.

 

ننتقل إلى الفقه:

أنا لا أعلم شيئاً عن مدى علمكم الفقهي وقد أكون أنا من أقل الناس علماً فيه ولكني أكتب إليك على قدر علمي والمرجع في ذلك لأهل الاختصاص والمراجع المعتمدة في الفقه.

تقول في موضوع الزواج وتعدد الزوجات ناسباً ذلك إلى الشيخ محمد عبده، ومعتقداً في صحة ذلك (ص156 من كتابك)، أن النص القرآني جعل مجرد الخوف من الظلم محرِّماً التعدد وموجباً الاقتصار على زوجة واحدة، وهذا كلام لم نسمعه من الفقهاء ولا صادفناه فيما قرأناه، واعتقادك أن هذا النص يحرِّم بما في معنى التحريم ويوجب بما في معنى الوجوب من الفقه يدل دلالة واضحة على أنه ليس لكم باع في الفقه الإسلامي رغم أن كتابك مملوء بالأحاديث وتخريجها والآيات القرآنية وأرقامها.

وكذلك قولكم في ص14 من كتابكم بعد تخريجكم لحديث (أكرموا عمتكم النخلة)، أنه حديث ضعيف فلا يحتج به، وهذا الاصطلاح (لا يحتج به) في ماذا؟ هل هو حكم من الأحكام يسقط الاحتجاج فيه بالحديث الضعيف، أو هو شيء من العقيدة في الوحدانية أو الأسماء أو الصفات فيسقط الاستدلال فيه بالحديث الضعيف، إن هذا الحديث إخباري محض فإن كان خارج طور العقل فكم من أحاديث صحيحة تخبر عما هو خارج طور العقل، ولا يقال في الأحاديث الإخبارية أنها ضعيفة لا يحتج بها فإن ذلك يقال في الأحكام والعقائد، فاستخدامك هذا اللفظ يؤيد ما ذهبنا إليه إلى أنك لست من أهل الفقه الذين يعتد بآرائهم.

بقيت مسألة أحب أن تكون من نفسك حَكماً فيها على نفسك وهي سقطة خطيرة من شخص يقول أنه غيور على الإسلام والمسلمين، تقول في ص133 من كتابك عند تعبيرك وتصويرك للصوفية بأنهم حشاشة ومروجي تجارة الحشيش، تقول بعد تقريرك لهذا الرأي:

"وعندما كنا في مصر عام 1959 سمعت كثيراً من أهلها أن البعض من خطباء المساجد لا يزالون يتعاطون الحشيش وخاصة أثناء خطبة الجمعة والصلاة عن طريق المضغ بالفم وأنهم يعتبرونه كالدخان غير محرم ولم يتيسر لنا التحقق من ذلك والله أعلم"،

هل ذكرت هذا يا سيدي باعتبار أن البعض من خطباء المساجد في مصر صوفية فتستقيم العبارة ويستقيم الاستدلال ويتماسك الموضوع؟ أم هو استطراد منك في الغيرة على الدين فوصفت بعض خطباء المساجد بما وصمتهم به، وهل تعتقد أن قولك: "ولم يتيسر لنا التحقق من ذلك" ينجيك في الموقف بين يدي الله؟ ومن يتحمل الوزر إذا نقل أحد أعداء الإسلام في ذمه للإسلام والمسلمين هذه العبارة كما وردت في كتابكم وقال: "يراجع التصوف بين الحق والخلق للأستاذ الباحث الحر والناقد المجرد محمد فهر شقفة"؟ وهل هذا هو الأسلوب العلمي الحر الذي أشرت إليه في ختام كتابك؟

أترك لك يا سيدي أن تجيب نفسك بنفسك عن جميع هذه الأسئلة بعد أن انبهك وألفت نظرك باعتبارك مخرِّجاً للأحاديث، ومحققاً لمعانيها ومَحال الاستدلال بها على ما ورد في صحيح مسلم في مقدمة كتابه عن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يتحدث بكل ما يسمع، فما بالك بمن ينشر كل ما يسمع مما يشين الإسلام والمسلمين دون أن يتحقق منه؟ عسى أن تستبرئ لدينك.

 

أما عن ذكرك للصوفية أنهم خليط من البوذية والنصرانية أو حكمك وتفسيرك لما أتى به رجال هذه الطريقة من مكارم الأخلاق وحث على تهذيب النفس في الأبواب التي أفردتها في كتابك فليست محلاً للبحث والمناقشة، فباعتبارك باحثاً وناقداً لك أن تطـْلـُع بما شئت من آراء مع علمنا بأنك تعلم تمام العلم قول الله تعالى: "ستكتب شهادتهم ويسألون"، كما أنه ليس لأحد عليك سبيل في إنكارك المراتب التي ذكرها الصوفية من الأقطاب والأبدال والخرقة إلى غير ذلك ولا يقدم ولا يؤخر اقتناعك أو ترجيحك لوفاة الخضر أو حياته، فإن هذه الأمور جميعها لا تقدح في العقيدة ولم يصدر تكليف من الشارع باعتقادها، ولا شرع يمنع وينفي وجودها وصحتها، فلذلك أعرضت عن البحث أو التعليق على هذه الأمور فإنها ليست من موضوع هذه الرسالة.

وختاماً أتوجه إليك بسؤال بسيط لا على سبيل الاختبار فأنا أصغر من أن أقيم نفسي هذا المقام بالنسبة لأمثالكم من أهل العلم والفضل ولكن على سبيل التذكير والإنصاف فإني قد أشرت لك في رسالتي أنني أتقدم إليك بهذا السؤال وهو:

يقول الشيخ ابن العربي في أول سطر من خطبة كتابه الفتوحات المكية هذه العبارة:

"الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه"،   نرجو ضبط وشكل لفظيّ "عدم" و"عدمه"، ثم تشرح لنا معنى ومفهوم هذه اللفظة فإنها عمود الفتوحات المكية وينبني عليها كثير من عقيدة الشيخ ابن العربي والصوفية، فإن أخطأتم معناها أخطأتم فهم كل ما جاء في الفتوحات المكية وبالتالي فهم كل ما جاء عن التصوف، وإن عجزتم عن معناها فابحثوا عنه في الفتوحات المكية إشارة صريحة للمؤلف في معناها وهي معلومة لدينا.

ونرجو من سعة صدركم وعظيم حلمكم وحسن خلقكم أن تتقبلوا منا هذه الرسالة البسيطة في نقد أو هدم مجهودكم الكبير، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والله أعلم بمن هو أهدى سبيلاً،

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

الداعي لكم

محمود محمود الغراب

 


[1] ) يراجع أيضاً ما جاء بخصوص هذا الموضوع ف.ج4ص483

[2] ترجمة إبان بن أبي عياش:

إبان بن أبي عياش فيروز أبو إسماعيل مولى عبد القيس البصري روى عن أنس وسعيد بن جبير وخليد العصري وغيرهم، وعنه عمران القطان ومعمر وأبو إسحاق الفزاري ويزيد بن هارون وآخرون، قال أحمد بن حنبل والفلاس وابن معين والنسائي والدار قطني وأبو حاتم وأبو سعيد متروك الحديث، وسئل عنه أبو زرعة فقال ترك حديثه ولم يقرأه علينا فقيل له: كان يتعمد الكذب؟، قال: لا، كان يسمع الحديث من أنس ومن شهر ومن الحسن فلا يميز بينهم، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه وهو بيـِّن الأمر في الضعف وأرجو أنه لا يتعمد الكذب إلا أنه يشتبه عليه ويغلط وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق، وقال ابن المديني كان ضعيفاً، وقال الساجي كان رجلاً صالحاً فيه غفلة يهم في الحديث ويخطئ فيه.


التقييم الحالي
بناء على 42 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث