بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.
تحقيق كتاب التجليات
هذا الكتاب مطبوع في مطبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد 1367هـ - 1948م، منشور ضمن كتاب (رسائل ابن العربي) الصادر عن دار إحياء التراث العربي.
كتاب التجليات أتى ذكره في الفهرس المنسوب إلى الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي تحت رقم 182، وفي إجازة الملك المظفر المنسوبة إلى الشيخ تحت رقم 223، وفي كتاب فصوص الحكم المنسوب إلى الشيخ في الفص الشعيبي، وأقدم نسخة عليها تاريخ هي نسخة مكتبة ولي الدين تحت رقم 1686 وتاريخها 667 هـ، وأما النسخة رقم 1759 الموجودة في دور الكتب الحافلة في استانبول فعليها سماع بتاريخ 14 المحرم عام 620هـ وليس عليها تاريخ الكتابة، وأما نسخة أوقاف بغداد رقم 4827 فعليها سماع بتاريخ 606 هـ وليس عليها تاريخ النسخة، وذكر هذا الكتاب عند عثمان يحيى برقم /738/.
لا تصح نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي لما يرد:
لا يعرف تاريخ تأليف هذا الكتاب، كما لم يرد ذكر لهذا الكتاب في أي من الكتب الثابت نسبتها إلى الشيخ الأكبر والتي ذكرها في الفتوحات المكية والبالغ عددها 56 كتاباً ولا في الكتب المذكورة في هذه الكتب والبالغ عددها 18 كتاباً، فيكون المجموع أربعة وسبعين كتاباً.
ولما كان اسم كتاب الفتوحات المكية قد ورد في هذا الكتاب، فهذا يعني أن الكتاب قد ألف بعد النسخة الأولى من الفتوحات المكية التي انتهى منها الشيخ عام 600هـ، وقد ألف الشيخ كتباً بعد هذه النسخة وجاء ذكرها في النسخة الثانية من الفتوحات والتي انتهى من كتابتها عام 636هـ.
جاء ذكر اجتماع الشيخ بسقيط الرفرف ابن ساقط العرش في الفتوحات المكية وذكر الشيخ أنه اجتمع به في قونية، وبتتبع رحلة الشيخ نجد أنه قد دخل قونية في رحلته عام 612هـ، وقد جاء ذكر ساقط العرش في كتاب التجليات وهذا يعني أن هذا الكتاب قد ألف بعد عام 612هـ، ومع ذلك لا نجد أي ذكر لهذا الكتاب في الفتوحات المكية التي انتهى منها الشيخ عام 636هـ.
فإذا كان كتاب التجليات قد ألف عام 612هـ أو بعده فيثبت بذلك أن السماع الذي على نسخة أوقاف بغداد والذي تاريخه عام 606هـ سماع مزور لأنه قبل تأليف الكتاب بست سنوات على الأقل.
أما عن ذكر كتاب التجليات في الفهرس (تحت رقم 182) الذي يقال أنه كتب عام 627هـ فقد ثبت بالتحقيق العلمي عدم صحة نسبة هذا الفهرس إلى الشيخ الأكبر وأنه مزور، فإنه لا يعقل أن يثبت الشيخ في هذا الفهرس 201 كتاباً لا يصح نسبتها إليه، ولا يثبت فيه 27 كتاباً من الكتب التي أثبتها لنفسه، وهذا دليل واحد من الأدلة التي تثبت عدم صحة نسبة هذا الفهرس إلى الشيخ الأكبر.
وأما عن ذكر هذا الكتاب في إجازة الشيخ إلى الملك المظفر التي يقال أنها كتبت عام 632هـ (تحت رقم 223)، فإنه يثبت بالتحقيق العلمي أن هذه الإجازة مزورة ولا يصح نسبتها إلى الشيخ، فإنه ليس من المعقول إثبات 261 كتاباً في هذه الإجازة لا يصح نسبتها إلى الشيخ، ولا يثبت فيها 27 كتاباً من الكتب الثابت نسبتها إليه، وكذا 16 كتاباً من الكتب المذكورة في الفهرس، فيكون المجموع 43 كتاباً، هذا باعتبار أن أكبر عدد من الكتب التي ذكرت في إحدى نسخ هذه الإجازة 304 كتاباً، وهذا دليل واحد من أدلة أخرى واردة في تحقيق عدم صحة نسبة هذه الإجازة وتزويرها.
(راجع تحقيق الفهرس والإجازة في كتابنا شرح فصوص الحكم – الطبعة الثانية)
وأما عن ذكر هذا الكتاب في كتاب فصوص الحكم المنسوب إلى الشيخ الأكبر والذي يقال أنه ألف عام 627هـ فإنه يثبت بالتحقيق العلمي أنه لا يصح نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ، فإنه لم يذكره في الكتب التي ذكرها لنفسه، فضلاً عن وجود أكثر من مائة نص في هذا الكتاب تخالف وتعارض الثابت عن الشيخ في كتبه الثابتة خصوصاً الفتوحات المكية.
ولما كان ما اتهم به الإمام ابن تيمية الشيخ الأكبر نسبه إلى كتاب التجليات ووجدنا أن النسخة التي بين أيدينا خالية مما جاء به الإمام ابن تيمية، فهذا يعني أنه كان يوجد على زمان الإمام ابن تيمية نسخاً مختلفة من هذا الكتاب، كلها مزورة، وعلى ذلك فلا يصح نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ الأكبر من حيث الإسمية، ولننظر صحة ما جاء في هذا الكتاب من نصوص ومدى تعارضها لما جاء في الكتب الأخرى الثابتة للشيخ.
يذكر الشيخ في كتاب التجليات بعض من اجتمع بهم من الأرواح المفارقة وما دار بينه وبينها من العلوم، وقد صح عن الشيخ اجتماعه بالأرواح المفارقة حيث يقول في الفتوحات ج1ص755: عملت أبياتاً في تجسد الأرواح المفارقة لاجتماع أجسامها في الحياة الدنيا، المسمى موتاً، وكنا رأينا منهم جماعة متجسدين، من الأنبياء والملائكة والصالحين من الصحابة وغيرهم، وهم يتجسدون في صور المعاني المتجسدة في صور المحسوسات، والأبيات هي:
فمنهم من تجسد لي بأرض ومنهم من تجسـد في الهواء
ومنهم من تجسد حيث كنـا ومنهم من تجسد في السماء
فـيخبـرنــا ونخبـره بـعـلـم ولكن لا نكون على السـواء
فـإني ثـابت فـي كـل عيـن وهـم لايقدرون على البقـاء
فهـم يتصورون بكل شـكل كلون المـاء من لون الإنـاء
ويؤكد ذلك بقوله في الفتوحات ج3ص316: وقد رأينا في الوقائع ممن تقدم جماعة غير قائلين بأمر ما، فلما سمعوه منا قبلوه ولم ينكروه لارتفاع التهمة عنهم في أشكالهم وأمثالهم. أهـ
والواقعة هي المبشرات وهي من الخيال المتصل، وأما التجلي فهو من عالم الخيال المنفصل مثل العروج الروحي وأمثال ذلك.
فكيف لا يذكر الشيخ اسم كتاب التجليات – وهو يتعلق بما يتكلم عنه – في أي من الموضعين، وهو يذكر ستة وخمسين كتاباً ويشير إليها فيما يناسب ما يكتب، مثال ذلك أنه يذكر كتاب إنشاء الجداول تسع مرات في الفتوحات المكية ومرة في كتاب الشأن ومرة في كتاب الأزل ومرة في كتاب التدبيرات الإلهية، ونراه يذكر كتاب عنقاء مغرب في الفتوحات المكية أربع مرات، ومرة في كتاب منزل القطب، ومرة في كتاب إنشاء الجداول والدوائر، ويذكر كتاب التدبيرات الإلهية في الفتوحات أربع مرات، ويذكره في كتاب مواقع النجوم مرة، ونراه يذكر كتاب عقلة المستوفز خمس مرات في الفتوحات المكية ويذكره في مواقع النجوم مرة، ونراه يذكر كتاب التنزلات الموصلية في الفتوحات إحدى عشرة مرة، ويذكر كتاب مواقع النجوم خمس عشرة مرة في الفتوحات، ويذكره في كتاب منزل القطب وفي كتاب حلية الأبدال، إلى غير ذلك من الكتب الستة والخمسين المذكورة في الفتوحات المكية وغيرها، فكيف لا يشير الشيخ إلى كتاب التجليات الذي ذكرنا أنه ألف بعد عام 612هـ في الفتوحات التي انتهى منها الشيخ عام 636هـ، وفي المكان المناسب لذلك كما سبق أن أوضحنا، وإذا صح السماع بتاريخ 606هـ فهذا يعني أن الكتاب قد ألف قبل هذا التاريخ، فكيف لا يشير الشيخ إليه مع قراءته للفتوحات لأكثر من اثنتين وثلاثين سنة؟!!.
من العجيب أن نرى الشيخ يذكر في هذا الكتاب اثني عشر شخصاً ممن جاء ذكرهم في الفتوحات المكية، وهم على الترتيب: أبو السعود الشبلي، والجنيد بن محمد، والحلاج، وذو النون المصري، وأبو سعيد الخراز، ويوسف بن الحسين، وابن عطاء الله، وعلي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وسهل بن عبد الله، وأبو بكر جحدر الشبلي، كل هؤلاء أتى ذكرهم في الفتوحات المكية ولم يذكر الشيخ أي اجتماع له بهم، فكيف يذكر اجتماعه بهم في كتاب التجليات، ويسقط من نصّ على اجتماعه بهم من الأنبياء مثل آدم ويوسف وهارون وعيسى عليهم السلام في عروجه الروحي، وما استفاده منهم، ولا يذكر اجتماعه بأحمد بن هارون السبتي الذي ذكر اجتماعه به في الفتوحات ج1ص638، ويقول: وقع بيني وبينه كلام ومفاوضة (ولم يذكر شيئاً عنها)، وكذا يـُغفل ذكر اجتماعه بأبي عبد الرحمن السلمي كما جاء في الفتوحات ج2ص261 وما دار بينهما.
ثم لننظر ما جاء في نصوص كتاب التجليات عمن ذكرهم الشيخ في الفتوحات المكية وكتبه الأخرى:
أأأتااأ
· أبو السعود الشبلي:
ما جاء في التجلي رقم 56 عنه لم يرد ذكره في أي ٍ من كتب الشيخ الثابتة.
· الجنيد بن محمد
ذكر الشيخ الأكبر الجنيد أربعاً وثلاثين مرة في الفتوحات ولم يذكر شيئاً مما جاء في اجتماعه بالجنيد في التجليات رقم 54، 58، 67، 75، أما ما جاء في التجلي رقم 66 فنجد أن الشيخ الأكبر ينكر على الجنيد قوله في التوحيد: يتميز العبد من الرب. أهـ ولم ينقل الشيخ الأكبر عن الجنيد هذه المقولة عن التوحيد في كتبه الأخرى، بل الذي نقله عن الجنيد في التوحيد هو قول الجنيد: إن المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر. أهـ، ذكر الشيخ الأكبر ذلك في الفتوحات ج1ص63، 103 – ج4ص8، 92 وفي كتاب مواقع النجوم، وفي كتاب الباء، وامتدح الشيخ الأكبر ما قاله الجنيد وجعله شاهداً لما جاء به.
أما إنكار الشيخ على الجنيد في التوحيد تميز العبد من الرب، فهو ما يثبته الشيخ في الفتوحات المكية – راجع ذلك عند تحقيق ما جاء في التجلي رقم 81.
أما ما جاء في تجلي المناظرة رقم (54) والذي ذكر فيه الجنيد حيث ينسب للشيخ الأكبر قوله: لله عبيد أحضرهم . . . إلى قوله: والبعد عين القرب، والقرب عين البعد. أهـ فقد جاء هذا المعنى قريباً باللفظ في حضرة الغنى والإغناء في الفتوحات ج4ص308 بخلاف المناسبة الواردة في كتاب التجليات، حيث يقول الشيخ الأكبر: إذا أغناك فقد أبعدك في غاية القرب، وإذا أفقرك فقد قربك في غاية البعد
فيـــا من قـربـه بـعـد ويا من بعـده قـرب
أقلني من هوى نفسي فإني الوالـه الصب
إلى أن يقول: ومن هذه الحضرة ظهر الغنى في العالم الذي يحوي على الفقر والخوف، مع مافيه من الزهو والفقر. أهـ
يؤكد ذلك ما نص عليه في الفتوحات ج2ص160 حيث يقول:
الفقر والعجز دنيا وآخرة فغاية القرب قرب فيه إبعاد
راجع كتابنا شرح كلمات الصوفية ص412.
فلا ذكر لما جاء في كتاب التجليات من تجلي المناظرة، ولا لشيء من المعاني الواردة فيه، لا في حضرة القربة والقرب في الفتوحات ج4ص272، ولا في حضرة الغنى والإغناء في الفتوحات ج4ص308، ولا ورد ذكر لكتاب التجليات ولا للجنيد في كلتا الحضرتين.
· الحلاج
جاء في تجلي العلة رقم 57:
رأيت الحلاج في هذا التجلي فقلت له: يا حلاج، هل تصح عندك علته له؟ (الصحيح علة: أي أن يكون الله علة لشيء) وأشرت، فتبسم وقال لي: تريد قول القائل: يا علة العلل ويا قديماً لم تزل؟ قلت له: نعم، قال لي:هذه قولة جاهل . . . لو كان علة لارتبط، ولو ارتبط لم يصح له الكمال (تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً) قلت له: هكذا أعرفه، قال لي: هكذا فينبغي أن يعرف فاثبت. أهـ
ذكر الشيخ الأكبر الحلاج في الفتوحات المكية إحدى وعشرين مرة، وذكره في كتاب الإسراء إلى مقام الأسرى مرة، ولم يذكر مقولة الحلاج "يا علة العلل" بل نسب القول بالعلة إلى بعض النظار المتكلمين، ولم يورد الشيخ ذكراً للحلاج عند شرحه للعلة والمعلول.
نجد أن ما جاء في هذا التجلي يخالف ما جاء به الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية الجزء الأول ص261، 262 في الباب الثامن والأربعين، وهو إثبات العلة والسبب، وهل نسبة العالم في وجوده إلى الحق نسبة المعلول أو نسبة المشروط؟ فبعد البحث المطول يخلص الشيخ في آخر الباب فيقول: إذ وقد علمت هذا، فهو أدل دليل على توحيد الله تعالى، كونه علة في وجود العالم، غير أن إطلاق هذا اللفظ عليه لم يرد به الشرع، فلا نطلقه عليه، ولا ندعوه به، فهذا توحيد ذاتي ينتفي معه الشريك بلا شك، قال الله عزّ وجلّ "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا".
ما جاء هنا يشرح ما ورد في الجزء الأول من الفتوحات ص42 في "مسألة" من وجب له الكمال الذاتي والغنى الذاتي، لا يكون علة لشيء، لأنه يؤدي كونه علة توقفه على المعلول، والذات منزهة عن التوقف على شيء، فكونها علة محال، لكن الألوهة قد تقبل الإضافات، فإن قيل: إنما يطلق الإله على من هو كامل الذات، وغني الذات لا يريد الإضافة ولا النسب، قلنا: لا مشاحة في اللفظ، بخلاف العلة فإنها في أصل وضعها ومن معناها تستدعي معلولاً، فإن أريد بالعلة ما أراد هذا بالإله فمسلم، ولا يبقى نزاع في هذا اللفظ إلا من جهة الشرع، هل يمنع أو يبيح أو يسكت. أهـ
ويقول الشيخ في رسالة لا يعول عليه في ص18:
كل علة يكون معلولها غير الحق لا يعول عليها، فإنك معلول وجودِه، وهو معلول علمك به. أهـ
ويقول الشيخ في ف.ج4ص54:
عندي أن العالم هو عين العلة والمعلول، ما أقول إن الحق علة له، كما يقوله بعض النظار، فإن ذلك غاية الجهل بالأمر، فإن القائل بذلك ما عرف الوجود، ولا من هو الموجود، فأنت يا هذا معلول بعلتك والله خالقك فافهم. أهـ
يريد الشيخ بذلك مسألة "العلم تابع للمعلوم"
ويقول في كتاب عقلة المستوفز ص81: خلاف المعلوم محال، فلهذا سكتنا عن ذكر سببية القلم واللوح، ولا سيما وقد قال بذلك من يعتقد فيه القائلون بالشرع أهل الحق أنهم كفار، وهم القائلون بالعلة والمعلول. أهـ
يقصد الشيخ ما ذكره في ص 54 من بعض النظار، ولم يأت للحلاج ذكر أبداً ويقول في ج4ص373:
من ذلك، ليس من الملة من قال بالعلة من الباب 213، الحق عند أهل الملة، لا يصح أن يكون لنا علة، لأنه قد كان ولا أنا، فلماذا تتعنـّى، من كان علة لم يفارق معلوله، كما لا يفارق الدليل مدلوله، لو فارقه ما كان دليلاً، ولا كان الآخر عليلاً، الشفا من أحكام العلل، في الأزل، ماقال بالعلة إلا من جهل ما تعطيه الأدلة . . . في هذا الطريق القول بالعلة معلول، بواضح الدليل أحكام الحق في عباده لا تعلل.
ويقول في كتابه عقلة المستوفز ص69:
إنه سبحانه ليس بعلة لشيء، بل هو الواحد، أوجد ما أوجده إيجاداً من لم يكن إلى فكان. أهـ
من هذا يفهم أن الشيخ ينفي أن تكون الذات علة لشيء لكونها غنية عن العالمين، ويثبت أن المرتبة تكون علة وهو ما جاء في الجزء الأول ص42، ص261 والمرتبة هي الألوهية وما يلزمها من إضافات ونسب.
· ذو النون المصري
ذكره الشيخ في الفتوحات المكية إحدى وثلاثين مرة وفي كتاب مواقع النجوم مرة وفي كتاب منزل القطب مرتين وفي كتاب روح القدس ثلاث مرات، ولم يذكر له اجتماعاً به، ولا أتى على ذكر ما ورد في كتاب التجليات عن ذي النون المصري، لا كشاهد ولا تحقيقاً، فكيف يصح ما جاء في التجلي رقم 59 من تعجب الشيخ الأكبر مما نسبه إلى ذي النون في قوله: إن الحق بخلاف ما يتصور ويتمثل ويتخيل. أهـ والشيخ الأكبر هو القائل في التوحيد في الفتوحات المكية ج4ص350: كلما تصورته أو مثلته أو تخيلته، فهو هالك وأن الله بخلاف ذلك، هذا عقد الجماعة إلى قيام الساعة، وعندنا هو ذلك، فما([1]) ثم هالك.أهـ
ومنه يتضح أن الشيخ وذا النون متفقان حتى في اللفظ، فمم يتعجب؟!!
ويقول في كتابه ترجمان الأشواق صفحة 168، في شرح قوله:
إن سرت في الضمير يجرحها ذلك الوهـم كيف بالبصـر
لـعبــة ذكـــرنـــا يــذوّبــهـــــا لطفت عن مسـارح النظر
يقول: ولهذا يقال في العقائد في جناب الحق: كل ما خطر في سرك، أو تلجلج في صدرك، أو حصره وهمك، فالله بخلاف ذلك. أهـ
كيف ينكر الشيخ ويتعجب مما يثبته في التوحيد والعقيدة في كتبه الثابتة.
· أبو سعيد الخراز
جاء في التجلي رقم 76
إن قيل لك: بماذا وجدت الحق؟ فقل: لقبوله الضدين معلماً للذين يصح أن ينسبا إليه، كالأول والآخر والظاهر والباطن . . . إلخ
كيف لا يذكر الشيخ في هذا التجلي أبا سعيد الخراز، وهو صاحب هذا القول، والشيخ يستشهد بقوله في الفتوحات المكية ج1ص184 حيث يقول: قيل لأبي سعيد: بم عرفت الله؟ قال: بجمعه بين الضدين ثم تلا (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) ويشرح الشيخ كلام أبي سعيد في الفتوحات المكية في ج1ص189، 461، 751 – وفي ج2ص40، 476، 512، 605، 660 – وفي ج4ص40 - وفي ذخائر الأعلاق مرتين، هذا لا يصدر عن الشيخ الأكبر فإنه لا ينسب قولاً إلى نفسه وهو يثبته لغيره.
· يوسف بن الحسين
ذكره الشيخ الأكبر في الفتوحات ثلاث مرات وفي كتاب منزل القطب مرة واحدة، يذكره راوياً عن ذي النون المصري وحسب، ولا يذكر له كلاماً لا في التوحيد ولا في غيره.
· ابن عطاء
جاء في التجلي رقم 68 أن الشيخ اجتمع بابن عطاء الله وقال له: إن الجمل أعرف بالله منك، وقال له: ما تعدى الرجل (أي رجل الجمل) ما تعطيه حقيقته يا ابن عطاء، وقال له في هذا التجلي: تب إلى الله يا ابن عطاء فإن جملك أستاذك . . . إلخ أهـ.
وردت قصة ابن عطاء في الفتوحات المكية في أكثر من موضع، ولم يذكر الشيخ ولم يشر إلى اجتماعه به في مجلى من المجالي، بل كان ذكره للقصة في معرض تحقيق واستشهاد، فقد جاء في الفتوحات ج3ص489 قوله: كان ابن عطاء راكباً على جمل فغاصت رجل الجمل، فقال ابن عطاء: جلّ الله، فقال الجمل: جلّ الله يزيد عن إجلالك،فكان الجمل أعلم بالله من ابن عطاء (وهو نفس ما ورد في هذا التجلي) فاستحى ابن عطاء.
ويقول في ف.ج4ص189: ألا ترى إلى ابن عطاء حين غاص رجل جمله فقال: جلّ الله، فقال الجمل: جلّ الله، وما غاص إلا ليطلب ربه، فإنه سجود قربة من ذلك العضو إلى الله، فلما رأى الجمل جهل ابن عطاء بالله في طلب الرجل ربه بالغوص، قال الجمل: جلّ الله أن تحصره معرفتك، فلا يكون له في عقدك إلا العلو، فمن يحفظ السفل؟ وأنا رجل ما أنا رأس، فلا بد أن أطلب ربي بحقيقتي (وهو نفس ماجاء في هذا التجلي: وما تعدى الرجل ما تعطيه حقيقته) وليس إلا السجود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دليتم بحبل لهبط على الله، وهذا عين ما قال الجمل.
ويقول في ف.ج4ص431: روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو دليتم بحبل لهبط على الله، وهي إشارة بديعة في الاعتصام بحبل الله، أنه يوصلنا إلى الله، ولهذا قال ابن عطاء، لما غاص رجل الجمل في الأرض: جلّ الله، فقال الجمل: جلّ الله، لأن رجل الجمل سجد بالغوص في الأرض يطلب ربه، فإن كل أحد إنما يطلب ربه من حقيقته (وهو نفس ما جاء في هذا التجلي) ومن حيث هو، ونسبة التحت والفوق إليه سبحانه على السواء، لا تحده الجهات ولا تحصره، . . . وهو الذي طلبه رجل الجمل بغوصه، وبقوله صلى الله عليه وسلم: لو دليتم بحبل لهبط على الله، مع أنه ليس كمثله شيء، فالنسب إليه على السواء، وما كان عند ابن عطاء خبر بذلك، فكان الجمل أستاذ ابن عطاء في هذه المسألة (وهو نفس اللفظ الوارد في هذا التجلي) فلله الفوق والتحت. أهـ
هذا نص ما جاء في الفتوحات المكية عن قصة ابن عطاء، فكل ماورد في كتاب التجليات مذكور نصاً في الفتوحات مع تحقيق وتفصيل، وليس فيه "قال" و"قلت له"، ولا أشار الشيخ الأكبر ولا ذكر أنه اجتمع بابن عطاء في تجلٍ من التجليات ولا أشار إلى كتاب التجليات عند إيراده لهذه القصة مراراً في الفتوحات المكية.
· مثل ذلك ما جاء في التجلي رقم 86 تجلي المعاملة، فإنه قد ورد نصاً في الفتوحات المكية ج4ص445، 446 في باب الوصايا من غير قلت وقيل لي، فقد جاء في هذا التجلي: قلت: رأيت إخواننا يأمرون المريد بالتحول عن الأماكن التي وقعت لهم فيها المخالفة، فقيل لي: لا تقل بقولهم، قل للعصاة يطيعون الله على الأرض التي وقعت لهم فيها المخالفة، وفي الثوب، وفي الزمان، فكما يشهد عليهم، يشهد لهم، ثم بعد ذلك يتحولون إن شاؤوا، وأتبع السيئة الحسنة تمحها. أهـ
هذا النص ورد في آخر باب من الفتوحات المكية في الجزء الرابع ص445، حيث يقول الشيخ رضي الله عنه: وصية – إذا عصيت الله تعالى بموضع فلا تبرح من ذلك الموضع حتى تعمل فيه طاعة وتقيم فيه عبادة، فكما يشهد عليك – إن استشهد – يشهد لك، وحينئذ تنتزح عنه، وكذلك ثوبك، إن عصيت الله فيه، فكن كما ذكرته لك، اعبد الله فيه . . . إلى أن يقول في ص446: هذا قد أغفله الناس بل يقولون: إذا عصيت الله في موضع فتحول عنه، لأنهم يخافون عليك أن تذكرّك البقعة بالمعصية فتستحليها، فتزيد ذنباً إلى ذنب، فما ذكروا ذلك إلا شفقة، ولكن فاتهم علم كبير، فأطع الله فيه وحينئذ تتحول عنه، فتجمع بين ما قالوه وبين ما وصيتك به، وكلما ذكرت خطيئة أتيتها فتب عنها عقيب ذكرك إياها، واستغفر الله منها، واذكر الله عندها بحسب ما كانت تلك المعصية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) وقال تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات"
هذا هو نفس النص دون أن يكون فيه قلت وقيل لي، ولم يرد ذكر ولا إشارة إلى كتاب التجليات عند ذكر هذا النص في الفتوحات المكية، إن كان ما جاء فيه سابقاً للفتوحات المكية، وإذا كان ما جاء في الفتوحات سابقاً لما جاء في كتاب التجليات، فما الفائدة الحاصلة من هذا التجلي؟ كما أنه لم يشر في هذا التجلي إلى الفتوحات المكية.
أما الخطأ الفاحش الذي ورد في هذا التجلي هو قوله "وفي الزمان" فلا يعقل أن يصدر ذلك عن الشيخ الأكبر فضلاً عن ناصح له، فإن المكان والثوب أعيان وجودية يمكن أن يؤدي فيها طاعة كما وقعت فيها المعصية، وأما الزمان فهو عرض يزول في الزمان الثاني لإيجاده، فلا يمكن أن تؤدى طاعة في الزمان الذي وقعت فيه المخالفة، حتى يشهد له الزمان كما شهد عليه، بخلاف المكان والثوب، ولهذا لم يرد ذكر الزمان في وصية الشيخ، بل جاء التعبير عن ذلك بقوله: وكلما ذكرت خطيئة . . . إلخ، والتذكر في زمان آخر ليس هو زمان المخالفة، ولم ينكر الشيخ ما قاله الناس، بل علله بالشفقة وأقره في وصيته بقوله "فتجمع بينما قالوه وبين ما وصيتك به" أين هذا مما جاء في هذا التجلي من قيل لي: لا تقل بقولهم.
· علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم
لم يذكر الشيخ اجتماعاً له بواحد منهم في جميع كتبه الثابتة.
· سهل بن عبد الله التستري
ذكره الشيخ ثلاثاً وثلاثين مرة في الفتوحات المكية وذكره ست مرات في كتابه مواقع النجوم ومرتين في كتابه الإسفار عن نتائج الأسفار ومرة في كتابه ذخائر الأعلاق إلى غير ذلك من الكتب الأخرى، ولم يرد في أي من هذه الكتب إشارة إلى ما جاء عن سهل في كتاب التجليات.
· أبو بكر جحدر الشبلي
ذكره الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية ثمان عشرة مرة وفي مواقع النجوم مرتين وفي تاج الرسائل مرة إلى غير ذلك من الكتب، وما جاء عنه في كتاب التجليات لم يرد ذكره في أي ٍ من الكتب الثابتة للشيخ رضي الله عنه.
وبذلك نكون قد انتهينا ممن ذكرهم الشيخ في كتبه الثابتة وجاء ذكرهم في كتاب التجليات، وعدم ثبوت ما جاء في هذا الكتاب مما نسب إليهم، ثم لننظر فيما جاء في بعض التجليات مما يخالف ما نص عليه الشيخ في الثابت عنه:
جاء في تجلي القسمة رقم 26: أما من كان على بينة من الله تعالى، فإنه يكشف له عما أراده، فيطمئن ويسكن تحت جري المقادير، فطاعته له مشهودة، ومعاصيه له مشهودة، فيعرف متى يعصي، وكيف يعصي، ولمن يعصي، وأين يعصي، وكيف يتوب ويجتبى، فيبادر لكل ما كشفه مستريحاً برؤية عاقبته.
هذا يخالف ما نص عليه الشيخ من أنه لا تقع المعصية مع الكشف حيث يقول في الفتوحات المكية ج2ص491: فإن قلت وهل يمكن أن يعصى على الكشف؟ قلنا: لا، قيل: فقول أبي يزيد لما قيل له أيعصي العارف؟ والعارف من أهل الكشف، فقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فجوّز، قلنا: هكذا يكون أدب العارفين مع الحق في أجوبتهم، حيث قال: إن كان الله قدر عليهم في سابق علمه ذلك، فلا بد منه، وهي معصية، فلا بد من الحجاب.
يؤكد ذلك ما جاء في ج2ص512 بقوله: إن الغيرة الإلهية تمنع أن ينتهك المقربون عنده حرمة الخطاب الإلهي بالتحجير.
ويقول في ج2 ص513: القسم الآخر رجال اطلعوا على سر القدر وتحكمه في الخلائق وعاينوا ما قدر عليهم من جريان الأفعال الصادرة منهم، من حيث ما هي أفعال، لا من حيث ما هي محكوم عليها بكذا أو كذا، وذلك في حضرة النور الخالص . . . إلى أن يقول: فلما عاين هؤلاء الرجال من هذا القسم ما عاينوه من حضرة النور، بادروا إلى فعل جميع ما علموا أنه يصدر منهم، وفنوا عن الأحكام الموجبة للبعد والقرب، ففعلوا الطاعات، ووقعوا في المخالفات، كل ذلك من غير نية لقرب ولا انتهاك حرمة.
أين هذا مما جاء في هذا التجلي من قوله: فطاعته له مشهودة ومعاصيه له مشهودة!!
ويقول في الفتوحات ج3ص244: من شهد الجبر في اختياره علماً من طريق الكشف والشهود، أتى المخالفة بحكم التقدير لا بحكم الانتهاك، فكان عاملاً بما علم فلم يضره ذلك العمل بل هو مغفور له.
ويقول في الفتوحات ج4ص125: اعلم أن المعصية لا تقع أبداً إلا عن غفلة أو تأويل، لا غير ذلك في حق المؤمن، وإذا وقع عين ذلك العمل من صاحب الشهود فلا يسمى معصية عند الله، وإن انطلق عليه لسان الذنب في العموم، فللغشاوة التي على أبصار المحجوبين، فيعذرهم الله فيما أنكروه على من ظهر منه هذاالفعل، وهو في نفس الأمر ليس بعاص، مسألة الخضر مع موسى . . . هذا حال أهل الشهود، يشهدون المقدور قبل وقوعه في الوجود، فيأتونه على بصيرة فهم على بينة من ربهم في ذلك، وهو مقام لا يناله إلا من كان الله سمعه وبصره
أين هذا مما جاء في هذا التجلي من أن من كان على بينة من الله تعالى يعرف متى يعصي وكيف يعصي ولمن يعصي وأين يعصي وكيف يتوب؟!!
· جاء في تجلي نعت الولي رقم 82
انشقت سماء العارفين . . . هم المجهولون في الدنيا والآخرة، المسودة وجوههم عند العالمين، لشدة القرب وإسقاط التكليف، لا في الدنيا يحكمون ولا في الآخرة يشفعون.
هذا يخالف ما جاء به الشيخ في شرحه "العارف مسود الوجه في الدنيا والآخرة" فنراه يقول: السواد من السؤدد عند الرسل والأنبياء والملائكة وعند الجماعة من السواد لكونهم مجهولين عند الناس، فلم يكونوا في الدنيا يعرفون، ولا في الآخرة تطلب منهم الشفاعة، قال تعالى فيهم (لا يحزنهم الفزع الأكبر)، وقال صلى الله عليه وسلم: إن لله عباداً ليسوا بأنبياء يغبطهم النبيون، فالعارف مسود الوجه في الدنيا والآخرة، ومبيض وجه الوجه في النشأة في الحافرة، اسوداد السيادة، لما كان عليه من العبادة، وبهذا مدح سبحانه عباده، وجه الشيء كونه، وذاته عينه، ووجهه ما يقابل به من استقبله، ولو كان أمله
جاء هذا في الفتوحات المكية ج3ص372 - ج2ص125 – ج4ص349
ويقول في الجزء الأول ص181: إن كان القائل كنى عن نفسه، فهو يعني أنه صاحب مقام العبودة، فإنه يريد باسوداد الوجه، استفراغ أوقاته كلها في الدنيا والآخرة في تجليات الحق له، ولا يرى الإنسان عندنا في مرآة الحق – إذا تجلى له – غير نفسه ومقامه، وهو كون من الأكوان، والكون في نور الحق ظلمة، فلا يشهد إلا سواده، فإن وجه الشيء حقيقته وذاته، ولا يدوم التجلي إلا لطائفة الملامية، وهم الأفراد أصحاب مقام القربة، وما فوقهم إلا درجة النبوة، وأما إن أراد بالتسويد من السيادة، وأراد بالوجه حقيقة الإنسان، أي له السيادة في الدنيا والآخرة، فيمكن، ولا يكون ذلك إلا للرسل خاصة فإنه كمالهم، وهو في الأولياء نقص، لأن الرسل مضطرون للظهور لأجل التشريع، والأولياء ليس لهم ذلك. أهـ
فما أبعد ما جاء في هذا التجلي من اسوداد وجه العارف عند العالمين (من السواد) وبين ما ذهب إليه الشيخ مما انفرد به عن الجماعة.
أما ما جاء في هذا التجلي من قوله: "المسودة وجوههم عند العالمين، لشدة القرب وإسقاط التكليف" أهـ، قوله "وإسقاط التكليف" لا يصح أن ينسب إلى الشيخ ابن العربي، فإن ذلك يخالف ما نص عليه، فإنه القائل في الفتوحات المكية ج1ص486: "من غلب عليه الحال أو الجنون أو النسيان أو النوم، أو الذي لم يبلغ حد الحلم، فقد زال عنه التكليف إما بالكلية وإما بالتعليق عند جميع الفقهاء، وعندنا ليس كذلك، فإن هؤلاء الذين يقول فيهم الفقهاء: قد ارتفع عنهم خطاب الشرع، لم يرتفع، فإن الشرع قد أباح له التصرف فيما يقتضيه طبعه كالحيوان . . . إلى أن يقول: يتغير حكم الشرع على العين لتغير الحال، فحال الطفولة والإغماء والجنون وغلبة الحال والفناء والسكر والمرض، للشرع فيها أحكام، فحكم الشرع سار في جميع الأحوال. أهـ
كيف يعقل أن الشيخ رضي الله عنه يقول بإسقاط التكليف لشدة القرب، مع أن مذهبه يخالف ذلك؟ وهل من البشر من هو أقرب من الأنبياء والرسل؟ فهل قال أحد بإسقاط التكليف عنهم؟!!
· من المؤكد أنه كانت توجد نسخ من كتاب التجليات تختلف في مضمونها، دليل ذلك أن ما نسبه الإمام ابن تيمية في فتاويه في المجلد الحادي عشر ص239، ([2]) من النسخة التي اطلع عليها لا يوجد جملة وتفصيلاً في النسخة التي بين أيدينا من كتاب التجليات، ولو اطلع الإمام ابن تيمية على هذه النسخة لوجد فيها ما هو أخطر شأناً مما أورده، ويؤيد به اتهامه للشيخ رضي الله عنه أنه إمام الاتحادية، حيث يجد في تجلي خلوص المحبة رقم 81 ما نصه:
ادخل بنا إلى حضرة الحبيب الحق بصورة الاتحاد حتى لا نمتاز، فنكون في العين واحداً، ما ألطفه من معنى، ما أرقه من مزج
رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها وتشاكل الأمـر
فـكـأنـمـا خـمـر ولا قــدح وكـأنما قـدح ولا خمـر أهـ
ما ورد في هذا التجلي يخالف ما نص عليه الشيخ في مقام الاتحاد ومعناه، فنراه يقول فيمن جعل الاتحاد عيناً واحدة كما جاء في هذا التجلي، يقول في الفتوحات ج4ص372:
من فصل بينك وبينه أثبت عينك وعينه، ألا تراه تعالى قد أثبت عينك وفصل كونك، بقوله إن كنت تنتبه، "كنت سمعه الذي يسمع به" فأثبتك بإعادة الضمير إليك ليدل عليك، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد
ويقول في الفتوحات المكية ج2ص317: مهذب الأخلاق غير قائل بالاتحاد
ويقول في الفتوحات ج2ص130: الاتحاد تصيير الذاتين ذاتاً واحدة، إما عبد وإما رب، ولا يكون إلا في العدد وفي الطبيعة، وهو حال.
أما ما جاء في هذا التجلي من قوله: حتى لا نمتاز، فيرده الثابت عن الشيخ رضي الله عنه في ف.ج2ص358 حيث يقول: ما خاطب تعالى إلا العقلاء، وهم الذين تقيدوا بصفاتهم وميزوها عن صفات خالقهم، فلما وقع التباين حصل التقييد، فكان العقل، ولهذا أدلة العقول، تميز بين الحق والعبد والخالق والمخلوق
ويقول شارحاً مقام الاتحاد عند الصوفية بما لا يدع مجالاً للشك أو الخطأ في الفهم مع دقة التعبير، يقول في الفتوحات ج1ص496: "إذا قلت الصائم هو الإنسان صدقت، وإن قلت الصوم لله لا للإنسان صدقت([3])، ولا معنى للاتحاد إلا صحة النسبة لكل واحد من المتحدين، مع تميز كل واحد عن الآخر في عين الاتحاد". أهـ، أي الاتحاد في إطلاق لفظة الصوم في حال الصوم، وقوله تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" أي الاتحاد في إطلاق لفظة الرمي في حال الرمي.
أين هذا مما جاء في هذا التجلي: حتى لا نمتاز فنكون في العين واحداً؟!!
أما الاستشهاد بالبيتين في خلوص المحبة، فإنه لم يرد الاستشهاد بهما عندما تكلم الشيخ عن المحبة ولوازمها في جميع كتبه الثابتة، ولكنه استشهد بهما في الفتوحات في ثلاثة مواطن مع ملاحظة أن صحة البيت الأول كما جاء في المواطن الثلاثة هو:
رق الزجاج ورقت الخمر فتشاكلا فتشابه الأمر
وليس (فتشابها وتشاكل) فيبعد أن يخطئ الشيخ في ذكر الشاهد مع ذكره صحيحاً ثلاث مرات في الفتوحات
أما الموطن الأول الذي ذكر فيه البيتين ففي الفتوحات ج1ص64 عند الكلام عن خليفة الله في الأرض وتشبيه الخليفة بالرداء فيقول: الواحد رداء وهو الذي ظهر وهو الخليفة المبدَع – بفتح الدال – وكان الآخر مرتدياً وهو الذي خفي وهو القديم المبدِع، فلا يعرف المرتدي إلا باطن الرداء وهو الجمع ويصير الرداء على شكل المرتدي، فإن قلت واحداً صدقت، وإن قلت ذاتان صدقت عيناً وكشفاً ولله در من قال:
رق الزجاج ورقت الخمر فتشاكلا فتشابه الأمر
وأما الموطن الثاني الذي جاء فيه ذكر البيتين ففي الفتوحات ج3ص214 فجاء عند ذكر الحجب وأنواعها فيقول: خلق الله هذه الحجب على نوعين: معنوية ومادية، وخلق المادية على نوعين: كثيفة ولطيفة وشفافة، فالكثيفة لا يدرك البصر سواها، واللطيفة يدرك البصر ما فيها وما وراءها، والشفافة يدرك البصر ما وراءها ويحصل له الالتباس إذا أدرك ما فيها كما قيل:
رق الزجاج ورقت الخمر فتشاكلا فتشابه الأمر
فـكـأنمـا خمـــر ولا قــدح وكأنما قدح ولا خمـر
وأما الموطن الثالث فجاء عند ذكر الخيال وأنه على صورة الحق حيث يقول في الفتوحات ج3ص290: فما قبل شيء من المحدثات صورة الحق سوى الخيال فإذا تحققت ما قلناه علمت أنه في غاية الوصلة، وهذا يسمى توحيد الوصلة والاتصال والوصل، كيف شئت قل، فلم يفرق في هذا التوحيد بين المثلين إلا بكونهما مثلين لا غير، فهما كما قال القائل (ويذكر البيتين).
أما عن كون المحب يقول عن نفسه أنه عين محبوبه، فالشيخ يستشهد بقول أبي يزيد:
(أنا من أهوى ومن أهوى أنا)،
كما جاء في الفتوحات ج2ص361 وهو الذي يناسب ما جاء في هذا التجلي من خلوص المحبة.
· جاء في تجلي عمل في غير معمل رقم 79
كم من ولي حبيب في البيع والكنائس، كم من عدو بغيض في الصلوات والمساجد. أهـ
لا يوجد مثل هذا الكلام في أي من كتب الشيخ الثابتة ولا يصح نسبة هذا الكلام إليه فإنه الناصح إخوانه في وصاياه، حيث يقول في الفتوحات ج4ص478: إن من الأدب مع الله عدم التحكم عليه في خلقه إلا بتعريفه و إعلامه، فإياك يا أخي أن تزكي على الله أحداً، فإن الله قد نهاك عن ذلك في قوله: "فلا تزكوا أنفسكم"، أي أمثالكم "هو أعلم بمن اتقى"، ولكن قل أحسبه كذا، أو أظنه كذا، كما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول في وصاياه في ج4ص483: تحفظ من الكلام القبيح، وهو أن تنسب صفة مذمومة لأخيك المؤمن وإن كانت فيه، لا في حضوره ولا في غيبته. أهـ فكيف يتصور أن الشيخ يذكر مؤمناً يكون بالمسجد أنه عدو لله بغيض، ويشهد لكافر في البيع والكنائس من اليهود والنصارى بأنه ولي لله حبيب؟!!
· وجاء في هذا التجلي: "بالنرد كان اللعب لا بالشطرنج" هذا يخالف مذهب الشيخ بتحريم النرد كما جاء في الفتوحات المكية ج4 ص490: "وإياك واللعب بالنرد فإن في اللعب بالنرد معصية الله ورسوله".
· وفي التجلي رقم 90 ص46، يقول: "علامة من عرف الله حقيقة المعرفة أن يطلع على سره فلا يجد فيه علماً به"، خُلف من الكلام، وتناقض واضح، ويخالف ما يحث عليه الشيخ الأكبر وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأنا أعلمكم به).
· كما يقول في التجلي رقم 95 ص48، يقول في هذا التجلي: "فكن مختصاً تكن عبداً" وهل الاختصاص من تكوين العبد؟! "يختص برحمته من يشاء".
· أما فصل الخطاب فهو ما جاء في تجلي التوحيد رقم 65 حيث جاء:
التوحيد أن يكون هو الناظر وهو المنظور،لا كمن قال:
إذا ما تجلى لي فكلي نواظر وإن هو ناجاني فكلي مسامع أهـ
لا يوجد هذا البيت لا في محفوظات العرب ولا في مدوناتهم، وقد نسبه الشيخ إلى غيره ولم ينسبه إلى نفسه، وقد يتوهم القارئ أن هذا البيت للعارف بالله عمر بن الفارض الذي ولد عام 576هـ وتوفي عام 632هـ فكان معاصراً للشيخ الأكبر، فقد يظن القارئ أن هذا البيت من عينية ابن الفارض التي مطلعها:
أبرق بدا من جانب الغور لامع أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع
والبيت الوارد في كتاب التجليات لا يوجد في قصيدة ابن الفارض المعاصر للشيخ كما لم يذكر لأحد من قبله، ولكن هذا البيت مصحـّف عن بيت من عينية الشيخ علي سبط ابن الفارض ومطلع قصيدته هو نفس مطلع عينية جده، كتبها الشيخ علي عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة أي بعد وفاة الشيخ الأكبر بـخمس وتسعين سنة، والبيت هو الثاني والثلاثون من القصيدة البالغ عدد أبياتها ستون بيتاً، وهذا نصه:
إذا ما بدت ليلى فكلي أعين وإن هي ناجتني فكلي مسامع
ولا شك أن هذا البيت الذي جاء به الشيخ علي أجمل وأفصح في باب الإشارة والكناية من البيت المصحـّف المذكور في كتاب التجليات
أما ما ينسب إلى الشيخ من إنكاره على من قال هذا الشعر، فإننا نجد الشيخ ابن العربي يقره في لوازم المحبة حيث يقول في الفتوحات المكية ج2ص325: حب لا يحكم على صاحبه بحيث أن يصمـّه عن كل مسموع سوى ما يسمع من كلام محبوبه، ويعميه عن كل منظور سوى وجه محبوبه، ويخرسه عن كل كلام إلا عن ذكر محبوبه، . . . فليس بحب خالص. أهـ
ويقول في كتابه تاج الرسائل: مهما أراد المحب أن ينطق فباسم الحبيب، ومهما أراد أن يسمع فكلام الحبيب، وكلما أراد أن ينظر فإلى وجه الحبيب، من نظر إلى غير وجه محبوبه هلك وتلف، ومن سمع غير كلام معشوقه ندم وأسف. أهـ
ولم يورد الشيخ ولا استشهد بهذا البيت المذكور في كتاب التجليات، وهو المناسب لهذا الحال وهذا المقام، لأنه ليس من محفوظات الشيخ الأكبر ولا كان على زمانه، بل استشهد الشيخ بقول الشاعر:
خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب
فبه يسمع وله يسمع، وبه يبصر وله يبصر، وبه يتكلم وله يتكلم. أهـ
فلم ينكر الشيخ المعنى الذي ورد في قول الشاعر الذي جاء في كتاب التجليات بل استشهد بما في معناه وصرح به في موضعه.
أما المقصود من هذا التجلي حيث جاء فيه: التوحيد أن يكون هو الناظر والمنظور. أهـ فقد ذكره الشيخ ونص عليه في خطبة كتابه الفتوحات المكية في الجزء الأول حيث يقول في ص2: إن خاطب عبده فهو المسمع السميع، وإن فعل ما أمر بفعله فهو المطاع المطيع، ولما حيرتني هذه الحقيقة أنشدت على حكم الطريقة للخليقة
الرب حـق والعبد حـق يا ليت شعري من المكـلف
إن قلت عبد فذاك ميت أو قـلـت رب أنـّى يـكـلـف
فهو سبحانه يطيع نفسه إذا شاء بخلقه، وينصف نفسه مما تعين عليه من واجب حقه، فليس إلا أشباح خالية، على عروشها خاوية، وفي ترجيع الصدى، سر ما أشرنا إليه لمن اهتدى، ويؤكد الشيخ هذا المعنى في التوحيد في كتابه التدبيرات الإلهية وفي الفتوحات ج2ص216 وفي ج3ص211، 217 ، 218، 226 فليراجع.
يتبين من كل ما أوردناه ويتضح أن هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ الأكبر "كتاب التجليات" لا صحة له ولا يجوز نسبته إلى الشيخ لا من حيث الاسم ولا من حيث المضمون.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
والحمد لله رب العالمين
محمود محمود الغراب
ص.ب /333/
دمشق - سوريا