يُعد العلامة الفرنسي رينيه جينو -أو العارف بالله الشيخ عبد الواحد يحيى كما كان يسميه الإمام عبد الحليم محمود رضي الله عنهما- حُجة الأديان عامة، وحجة الإسلام خاصة في القرن العشرين.
الاسم:
«رينيه جينو» عبد الواحد يحيى.
المولد والنشأة:
ولد «جينو»في بلدة «بلوا» الفرنسية، التي تقع على نهر «اللوار»، على بعد 172كم من «باريس»، في الخامس عشر من نوفمبر سنة 1886م، من أسرة فرنسية كاثوليكية، وكان والده مهندسًا ذا شأن.
نشأ «جينو»هادئًا وديعًا، وكانت تظهر عليه منذ الطفولة ملامح الذكاء الحاد، إلا أن ظروفه الصحية حالت دون التحاقه بالمدرسة، فتولت عمته «دورو» تعليمه القراءة والكتابة في منزلها على ضفاف نهر «اللوار» حتى الثانية عشرة من عمره ... وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره التحق بكلية «رولان كلودج» في باريس ليحصل على شهادة الليسانس في شعبة الفلسفة، حتى نالها سنة 1904م، بعد أن نال جوائز عدة كانت تُمنح للمتفوقين من أمثاله.
حصل على البكالوريا في الرياضيات المتخصصة، إلا أن دراسته في ذلك الوقت قد عرفت الخط الذي سيصبح طريقه إلى البحث المتواصل، فلم يكتف بالدراسة الجامعية وراح ينهل من العلم في «باريس» الزاخرة بالمعلمين والمرشدين من الشرق والغرب .. وما أن وصل إلى العشرين من العمر حتى كان قد تشرب أساسيات تكوينه الروحي، وبدأ رحلته في البحث والتنقيب بين المنظمات المختلفة لمعرفة ما إذا كانت ذات طابع أصيل أم لا؛ إذ لم يعد رجال اللاهوت الكنسي قادرين على تقديم إجابات مقنعة لأسئلته؛ فقرر الابتعاد ومحاولة البحث بنفسه عن اليقين المطلق في غياهب المجهول، وراح يدرس أهم المذاهب الدينية والفلسفات الروحية قبل أن يستقر به المطاف في رحاب الإسلام ليصبح واحدًا من أهم متصوفي العصر الحديث.
في عام 1906م خالط المدرسة الحرة للدراسات الغيبية «ليابوس»، وانتقل إلى منظمات أخرى كالمارتينية والماسونية التابعة للطقس المعروف باسم الطقس الإسباني، وفي عام 1908م انضم إلى المحفل الماسوني الكبير في فرنسا، كما انضم إلى الكنيسة «الغنوصية»، وهي كنيسة قائمة على المعرفة من أجل الوصول والرقي لمعرفة الله سبحانه وتعالى، أي: أنها قائمة على عكس الكنيسة السائدة التي تؤمن بتجسد الله عز وجل إلى بشر وما إلى ذلك، وفي نفس هذه الفترة التقى بالعديد من الشخصيات التي سمحت له بتعميق معرفته بمذهب الطاوية الصيني وبالإســـلام.
اعتناقه الإسلام:
في عام 1912م اعتنق «رينيه جينو»الإسلام، وفي نفس العام تزوج من فتاة فرنسية من إقليمه.
كانت معرفته بالمفكر والرسام السويدي «جان جوستاف أجلي»، الذي اعتنق الإسلام عام 1897م، فصار اسمه عبد الهادي، والذي كان يشارك في تحرير مجلة عربية إيطالية باسم «النادي»، كانت هذه المعرفة لها الأثر الأكبر في إسلامه، خاصة أن «جينو»نشر العديد من المقالات عن المتصوف العربي الشهير: محيي الدين بن عربي.
كان «جينو»في هذا الوقت يصدر مجلة باسم «المعرفة»، فأخذ عبد الهادي في عام 1910م يساهم فيها بجد ونشاط، ونشر فيها أبحاثًا وترجمة لكثير من النصوص الصوفية إلى اللغة الفرنسية، ومن هنا تمكن عبد الهادي من أن يعقد بين «جينو»والشيخ عليش -الذي أسلم هو على يديه- صلة قوية متينة، عن طريق تبادل الرسائل والآراء، وكانت النتيجة أن اعتنق «جينو»الدين الإسلامي عام 1912م، بعد أن درسه دراسة مستفيضة.
ويحكي لنا الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود سبب إسلام «رينيه جينو»، فيقول: «كان سبب إسلامه بسيطًا ومنطقيًّا في آنٍ واحدٍ، لقد أراد أن يعتصمَ بنصٍّ مقدسٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم يجد بعد دراسته العميقة سوى القرآن؛ فهو الكتاب الوحيد الذي لم ينله التحريف ولا التبديل؛ لأن الله تكفل بحفظه، فاعتصم به وسار تحت لوائه، فغمره الأمن النفساني في رحاب الفرقان».
إقامته بمصر:
عرض بيت من بيوت النشر في باريس، على الشيخ عبد الواحد أن يسافر إلى مصر ليتصل بالثقافة الصوفية؛ فينقل نصوصًا منها ويترجم بعضها، فقبل العرض.
وفي 20 فبراير سنة 1930م، سافر إلى مصر لهذا الغرض، وكان المفروض أن يقضي فيها بضعة أشهر فقط، ولكن هذا العمل اقتضاه مدة طويلة، ثم عدل بيت النشر عن مشروعه؛ فاستمر الشيخ عبد الواحد يحيى في القاهرة، يعيش في حي الأزهر متواضعًا مستخفيًا لا يتصل بالأورُوبيين، ولا ينغمس في الحياة العامة، وإنما شغل كل وقته بدراساته.
كانت والدته وزوجه ووالده قد توفاهم الله قبل حضوره إلى القاهرة؛ فحضر إليها وحيدًا، ووجد الكثير من المشاقِّ في معيشته منفردًا؛ فتزوج في سنة 1934م كريمة الشيخ محمد إبراهيم، فمهدت له حياة من الطمأنينة والهدوء.
وانتقل بها من حي الأزهر إلى حي الدقي، واستمر يرسل المقالات إلى فرنسا، وينشر الكتب مستريحًا إلى عطف زوجته ورعايتها، ورزقه الله بفتاتين، سمى إحداهما خديجة والأخرى ليلى، ورزقه بولد سماه أحمد، كان له قرة عين، وبعد وفاته بأربعة أشهر، أتت زوجه بولد، سمَّته عبد الواحد.
ولقد حاول الشيخ عبد الواحد بمجرد وصوله إلى القاهرة، أن ينشر فيها الثقافة الصوفية؛ فساهم ماليًّا وأدبيًّا في إخراج مجلة «المعرفة»، وقد بدأت المجلة وعليها طابع التصوف، ولكنها -فيما يبدو- لم تجد الإقبال المنتظر؛ فأخذت تتسم شيئًا فشيئًا بالطابع الأدبي، ثم توقفت عن الصدور بعد ثلاث سنوات من حياتها.
ومكث الشيخ عبد الواحد في القاهرة يؤلف الكتب، ويكتب المقالات ويرسل الخطابات إلى جميع أنحاء العالم، كان حركةً دائمةً، حركةً فكريةً وروحانيةً ترسل بسنائها إلى كل من يطلب الهداية والرشاد.
تصوفه:
عرف «جينو» الإسلام عن طريق الطرق الصوفية، ومنها: الطريقة «الشاذلية» التي أخذها عن الشيخ عبد الرحمن عليش، ابن الشيخ المغربي الأصل محمد عليش، إمام المذهب المالكي بالأزهر الشريف، كما عرف الإسلام أيضًا عن طريق الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي، عن طريق الشيخ عليش أيضًا، وبدون تعارض مع العقيدة الإسلامية، بل هو التصوف الإسلامي في أبهى صوره ...
ومن أهم الكتب التي أصدرها عن الصوفية والمتصوفين:
- «القديس برنار» 1921م.
- و«صوفية دانتي» 1925م.
- و«ملك العالم» 1927م.
- و«لمحات في التصوف» 1946م.
- و«التلفيق الروحي وتحقيقه» 1952م.
- و«لمحات في التصوف المسيحى»1954م.
قال عن التصوف:
ألقى الشيخ عبد الواحد محاضرة في جامعة السوربون لتوضيح معنى التصوف، ولوصف مجال التصوف، قال فيها:
إن التصوف يعنى معرفة المبادئ الكونية، وإن كان هذا التعريف لا يُعطي إلا فكرة مبهمة أو عامة إلى حد ما، وإن هذا المجال يمتد إلى أبعد بكثير مما يتصوره بعض الغربيين، فعندما حاول أرسطو تعريف مجال ما وراء الطبيعة على أنه معرفة الإنسان كإنسان شبهه بعلم الكائنات، أي أنه أخذ الجزئية على أنها تعنى الكل .. أما بالنسبة لمجال ما وراء الطبيعة أو التصوف في الشرق، فإن الكائن الصافي ليس أول المبادئ ولا أكثرها عالمية أو كونية؛ لأنه يعد بمثابة تحديد، في حين المقصود هو التوصل إلى ما هو أبعد من الكائن المحدد، وذلك هو الأهم في الموضوع؛ لذلك عند استخدام عبارة ما وراء الطبيعة يجب دائما أن نحفظ جزءًا في التعريف لما لا يمكن تعريفه كالفرق بين كلمة النهائي بمعنى المنتهى، أيا كانت عظمته وكبره، وكلمة اللانهائي، فكل هذه الأشكال سواء أكانت كلمات أم رموز لا تمثل إلا دعامة أو نقطة ارتكاز للارتقاء إلى إمكانات مفاهيم تتخطاها بكثير، والأمر لا يتعين بعمل مجردات معينة، وإنما بالتوصل إلى معرفة مباشرة من الحقيقة كما هي.
فالعلم هو المعرفة العقلانية الاستدلالية غير المباشرة، إنه معرفة عن طريق الانعكاس، أما مجال ما وراء الطبيعة أو التصوف فهو المعرفة فوق العقلانية، الحدسية والمباشرة، وهذا الحدس الفكري الصافي الذي بدونه لا يوجد تصوف حقيقي، لا يجب أن نخلط بينه وبين الإلهام بالمعنى الذي يتحدث به بعض الفلاسفة المعاصرين؛ لأن ذلك الإلهام الذي يتحدثون عنه هو على العكس دون العقلانية، فهناك حدس فكرى وحدس فعلى، أحدهما يتخطى المنطق والآخر من دونه، وهذا الأخير لا يمكنه إدراك إلا العالم المتغير أي الطبيعة، أو بمعنى أدق جزء ضئيل منها، أما مجال الحدس الفكري فعلى العكس من ذلك فهو مجال المبادئ الخالدة التي لا تتزحزح، إنه مجال ما وراء الطبيعة أو مجال التصوف.
الشيخ عليش والشيخ عبد الواحد:
إنّ الصّلة بين الشيخ الأكبر، سيدنا «محيي الدين بن عربي», وبين الشيخ «عبد الواحد» بادية ظاهرة, ولقد اعتنق «جينو» الإسلام بواسطة شيخ ينتسب إلى روحانيّة الشيخ الأكبر؛ وهو الشيخ عليش الكبير, وهو الشخص الذي أهدى إليه «جينو» أحد كتبه في هذه العبارة : «إلى الذكرى المقدّسة, ذكرى الشيخ عبد الرحمن عليش الكبير, المالكي, المغربي, الذي أدين له بالفكرة الأولى لهذا الكتاب. مصر- القاهرة 1329- 1347 هـ».
وهذا الشيخ المصري يهمّنا من ناحية أخرى؛ لأنّه فضلًا عن صفته الصوفيّة السامية, كان له صفة أخرى, فلقد كتب «جينو» في أحد خطاباته يقول: «كان الشيخ عليش شيخ فرع من الطريقة الشاذليّة, وكان في الوقت نفسه شيخ المذهب المالكي بالأزهر».
والشاذليّة طريقة أسّسها في القرن السابع الهجري الشيخ «أبو الحسن الشاذلي», وهو صورة من أروع الصور الروحانيّة في الإسلام.
كان الشيخ الذي ينتسب إليه «جينو» إذًا, يجمع بين صفتين، هما: الحقيقة والشريعة؛ كان شيخ طريقة, وشيخ مذهب, وهذا له أهمّية بالنسبة لتلميذه، فيما يتعلق بتقديرنا لآرائه من الناحية الإسلاميّة.
ومما ينبغي ملاحظته في عناية، أنَّ هذا الشيخ هو الذي يدين له «جينو» بالفكرة الأولى لكتابه «رمزيّة الصلب», وهكذا كان هذا الشيخ يفتح السبل أمام «جينو», ويهديه الطريق, وحمل «جينو» راية الجهاد من بعده، فاستمر يبني على ما أسّسته «الأكبريّة»؛ تلك الجماعة التي تنتهج نهج الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.
والواقع هو أنّ الذي وجّه «جينو» هذه الوجهة هو الشيخ عليش، والشيخ عليش إنّما كان مرآة تعكس صورة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وهو أسمى مظهر للتصوف الإسلامي والعقيدة الإسلاميّة, وإذا كان الشيخ عليش مالكيّاً محافظًا, فإنّ تصوفه لا يخرج عن التعاليم الإسلاميّة.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة له، فإنّه كذلك أيضًا بالنسبة لتلميذه «جينو».
جهوده العملية:
- في عام 1909م أصدر تقريرين علميين في مجلة «سلوك»، ومناظرة في مجلة «أكاسيا»، ورسالة توضيحية في مجلة «فرنسا المسيحية اللاماسونية»، وكان يوقع أعماله باسم «أبي الهول».
- ومع نهاية عام 1909م بعد تعيين «رينيه جينو» أسقفًا غنوصيًّا بكنيسة الإسكندرية الغنوصية أسس مجلة «الغنوص»، وأصدر مجموعة من الأبحاث في هذه المجلة، وكان حكمه على هذه الكنيسة انتقادًا قويًّا، على اعتبار أن المذاهب الروحية الحديثة ليست إلا مادية جديدة في مستوى آخر، وهمّها الوحيد أن تطبق على الروح منهاج العلم الوضعي.
في سبتمبر سنة 1917م عُين الشيخ «رينيه» أستاذًا للفلسفة في الجزائر؛ فقضى فيها عامًا عاد بعده إلى فرنسا، وعُين في مدرسة بلدته، ولكنه استقال بعد عام قضاه في التدريس ليتفرغ لأبحاثه، وكان من ثمرة هذا التفرغ أن نشر في سنة 1921م كتابين هما:
1- «مدخل لدراسة العقائد الهندية».
2- «التيوزوفية: تاريخ دين مزيف».
وفي سنة 1925م فَتحت له مجلة «قناع إيزيس» صدْرَها فأخذ يكتب فيها، وانتهى به الأمر في سنة 1929م أن أصبح أهم محرر بها؛ ذلك أنه رفض ما عرضته عليه المجلة من رئاسة التحرير.
ومن بين مَن التفوا حوله في تحرير المجلة: العالم الأستاذ: «شون»، الذي ألف كتبًا بالفرنسية من بينها كتاب: «عين القلب»، وقد اعتنق هذا العالم الإسلام أيضًا، وهو يدين -برغم أصالته وعبقريته- إلى «جينو» بكثير من اتجاهاته.
وتوالى بعد ذلك نشر كتبه وتوالت مقالاته في مختلف الجرائد ...
دروس ومحاضرات:
في عام 1925م ألقى الشيخ عبد الواحد يحيى محاضرة من أهم المحاضرات في جامعة السوربون تحت عنوان: «الميتافيزيقا الشرقية» وضح فيها الفرق بين الشرق والغرب في المجال الغيبي، موضحًا فيها أن الميتافيزيقا واحدة، لا شرقية ولا غربية، مثلها مثل الحقيقة الخالصة، إلا أنه يختلف مفهومها أو يختلف تناولها في كل من الشرق والغرب، واختياره لعبارة (شرقية) يعني به دراسة المجال الغيبي في الشرق بعامة؛ فالحضارات الشرقية مستمرة بنفس تواصلها، وهي ما زالت تعد الممثل المختص الذي يمكن اللجوء إليه للتزود بالمعلومات الحقة؛ وذلك لأن الحضارات الغربية تفتقد هذه الأصول الممتدة.
من أقواله:
- إن أيديولوجية العالم الحديث تتسم بثلاث نقاط: قلب التدرج الهرمي في كافة الميادين، والتقليل من أهمية المجال الفكري، والمبالغة في المجال الماديوالعاطفي.
- إن التشتت والسطحية، أو كل ما يتعلق بالظاهر، تؤديان إلى هدم النزعةالفكرية.
وإن العصرالحديث قد فقد معنى كل ما هو مقدس، فالحضارة التي لا تعترف بأي مبدأ أعلى، والتيتقوم على إنكار المبادئ هي حضارة مجردة من أية وسيلة تفاهم من الحضارات التراثية؛ لأن كل ما يقوم بدور في الوجود الإنساني قد تم تجريده تدريجيًّا من أي طابع مقدس أوتراثي. وبذلك تحول نفس ذلك الوجود إلى مجرد وجود دنيوي، وتدنى إلى تفاهة الحياةالعادية مثلما نراها اليوم.
- إن العقلية الحديثة مصطنعة، فمجمل ما يكوَّن الحضارة الحديثة أيًّا كانت وجهة نظره يبدومصطنعًا ومزيفًا. فما يبدو جليًّا وأساسيًّا هو كل ما يؤدى إلى تحريف العقلية الذينراه.
- إن التبشير يتلخص في فرض المعتقدات بأية وسيلة علىالآخرين. والأوروبيُّون يريدون إجبار الجميع على الاهتمام باهتماماتهم هم، وأن يضعوهافي أول درجة لاهتماماتهم الاقتصادية، وتبني نفس نظامهم السياسي، وذلك أنهم يحاولوندائمًا أن يبدوا واثقين من أنفسهم ومما يقولون، وإخفاء الصعاب التي يعانون منها،وأن لا ينطقوا بأي شيء بصورة مشكوك فيها. فتلك هي أسهل وسيلة لأن نأخذهممأخذَ الجد، وأن يحصلوا هم بذلك على مزيد من السلطة.
- إن العالم الحديث له معتقد باطل عن الحياة، حيث إنه يحصر نفسه بداخلها وبداخل المفاهيمالمتعلقة بها مباشرة، ويجهل كل شيء عن المبادئ المتعالية الثابتة، بينما تمثلالحياة والحركة نوع من التسلط لدى المعاصرين، الذين يعطونهما الأولوية على المجالالميتافيزيقي، كما يتصف الحداثيون بأنهم يأخذون الجزء الضئيل على أنه الكل، الأمرالذي يكشف عن أفق فكري محدود.
- ومن أهم النقاط التي أشار إليها في أبحاثه عن الحضارة،يقول الشيخ عبد الواحد يحيى: إن ما يتصوره الحداثيون من أن تطور الإنسانية والحضارةيتم بصورة مستمرة وفي خط واحد هي سفسطة، لأن الإنسانية تتطور في حضارات متعددةمستقلة عن بعضها؛ بل ومختلفة؛ وذلك لأن بعضها ينمو ويتطور بينما الآخر ينتهي أو يضمحل.
وإن مايميِّز الحضارة الغربية هو اهتمامها بالأشياء العارضة ولا تهتم إلا بها، وذلككالاقتصاد والعلوم والسياسة، بينما يمكن الحصول على نتائج أكثر في مجال معين بفضلقانون التركيز، إلا أن ذلك لا يتأتى إلا بتوجيه من مذهب فكرى صافٍ، وهم لا يهتمونبقيمة أو بنوعية المعارف التي يحصلونها، فكل ما يعنيهم هو الكم، وهذا يعني التشتتفي تفاصيل لا نهائية، ومثل هذه العلوم التحليلية لا ترتبط بشيء، ومن الناحيةالفكريةفهي لا تؤدي إلى أي شيء.
وإنالعقلية الحديثة تحصر نفسها في نطاق متزايد الضيق، وتخلط كل شيء في ذلك الحيز الضيق،بحيث يكون الانطباع العام الناجم هو الاختلال والفوضى. وفي الخواء العام والنظرياتالمتعددة والفرضيات التي تتلاطم وتتصارع وتتناقض وتهدم بعضها البعض، تظل الحقيقة بعيدة المنال بالنسبة للإنسان. والحضارة الحديثة تفتقر إلى المبادئ الراسخة؛ لذلك هيمتغيرة.
مكانته:
«رينيه جينو» من الشخصيات التي أخذت مكانها في التاريخ، يضعه المسلمون بجوار الإمام الغزالي وأمثاله، ويضعه غير المسلمين بجوار أفلاطون، صاحب الأفلاطونية الحديثة وأمثاله.
وإذا كان الشخص لا يُقَدَّرُ التقدير الذي يستحقه إلا بعد وفاته -كما هو السائد- فقد كان من حسن حظ «رينيه جينو» أنه قُدر في أثناء حياته، وقُدر بعد وفاته، أما في أثناء حياته فكان أول تقدير له أنْ حرَّمت الكنيسةُ قراءة كتبه، والكنيسة لا تفعل هذا إلا مع كبار المفكرين الذين تخشى خطرهم، وقد وضعته بذلك بجوار عباقرة الفكر الذين اتخذت تجاههم نفس المسلك، ولكنها رأت في «رينيه جينو» خطرًا يكبر كل خطر سابق؛ فحرمت حتى الحديث عنه.
وإذا كان هذا تقديرًا سلبيًّا له قيمته، فهناك التقدير الإيجابي الذي لا يقل في أهميته عن التقدير السلبي؛ فهناك هؤلاء الذين استجابوا لدعوة «رينيه جينو»؛ فأنشأوا جمعيات في جميع العواصم الكبرى في العالم، وعلى الخصوص في سويسرا وفي فرنسا، والمكونون لهذه الجمعيات، احتذوا حذو «رينيه جينو»؛ فاتخذوا الإسلام دينًا، والطهارة والإخلاص وطاعة الله شعارًا وديدنًا، ويكونون وسط هذه المادية السابغة وهذه الشهوات المتغلبة واحات جميلة، يلجأ إليها كل من أراد الطهر والطمأنينة.
ومن التقدير الإيجابي أيضًا: أن كتبه -برغم تحريم الكنيسة لقراءتها- قد انتشرت في جميع أرجاء العالم، وطُبعت المرة بعد الأخرى، وترجم الكثير منها إلى جميع اللغات الحية الناهضة، ما عدا العربية للأسف الشديد.
كل هذا التقدير كان في حياته،أما بعد مماته فقد زاد هذا التقدير، فلقد كتبت عنه جميع صحف العالم، ومنها بعض الصحف المصرية العربية كــ«المصور» مثلًا التي كتبت عنه باستفاضة.
وكتب عنهجبرئيل بقطر، وهو من الصحفيين القلائلالذين نجحوا في لقائه رغم العزلة، قائلاً:إنه يعيش منذ زمن بعيد، وكأنه إنسانلا ينتمي إلى كوكبنا .. وكان الشيخ يعيش فعلًا في الأجواء اللامادية للفكر؛لأن الجسد وكل ما هو مادي لم يكن ليجذب انتباهه. ويضيف الصحفي كاتبًا: كانيبدو وكأنه إنسان قادم من أعماق إحدى تلك الكاتدرائيات القوطية السحيقة .. أشبه مايكون بتلك الرؤيا المتجسدة.
كما كتبت عنه الصحف الأجنبية أيضًا كمجلة «إيجيت نوفل»، التي أخذت تكتب عنه عدة أسابيع، ثم أخذت تكتب عنه كل عام في ذكرى وفاته.
وخصصت له مجلة «فرنسا- آسيا» عددًا ضخمًا، كتب فيه كبار الكُتَّاب الشرقيين والغربيين، وافتتحته بتقدير شاعر فرنسا الأكبر «أندريه جيد» لـ «رينيه جينو» وقوله في صراحة لا لبس فيها: إن آراء «رينيه جينو» لا تنقض.
كما خصصت مجلة «إيتودترا ديسيونيل» -وهي المجلة التي تعتبر في الغرب كله لسان التصوف الصحيح- عددًا ضخمًا من أعدادها، كتب فيه أيضًا كبار الكتاب الشرقيين والغربيين.
ثم خصص له الكاتب الصحفي الشهير «بول سيران» كتابًا ضخمًا، تحدث فيه عن حياته وعن آرائه ووضعه -كما وضعه الآخرون الذين كتبوا عنه- في المكان اللائق به بجوار الإمام الغزالي أو الحكيم أفلاطون.
هذا وقد جاءت هذه المقالات تحت عناوين مختلفة، منها: «حكيم كان يعيش في ظل الأهرامات»، و«فيلسوف القاهرة»، و«أكبر الروحانيين في العصر الحديث»، ووصفوه بالبوصلة المعصومة، وبالدرع الحصين، وغير ذلك.
مؤلفاته:
ترك الشيخ عبد الواحد يحيى العديد من المؤلفات، التي ضمت بين صفحاتها دفاعًا عن الإسلام وصورته لدى الغرب، في مواجهة الصورة التي كان يروجها المستشرقون حول كون الإسلام انتشر بحد السيف، وأنه لا يثمر الروحانية العميقة، وبيان أن الحضارة الإسلامية تتسم بالقوة الذاتية، التي تجعلها تؤثر في أقاليم غير التي نشأت فيها، وجاءت إسهاماته في الرد على هذه الاتهامات من خلال كتبه التي من أهمها:
- «خطأ الاتجاه الروحاني» تحضير الأرواح.
- «الشرق والغرب»:رد فيه إلى الشرق اعتباره، مبينًا أصالته في الحضارة، وسموه في التفكير، وإنسانيته التي لا تقاس بها مادية الغرب وفساده.
- «علم الباطن لدانتي».
- «الإنسان ومستقبله وفقًا للفيدانتا».
- «أزمة العالم المعاصر»:بَيَّنَ فيه الانحراف الهائل الذي تسير فيه أوروبا الآن، والضلال المبين الذي أعمى الغرب عن سواء السبيل.
- «ملك العالم».
- «القديس برنارد».
- «رمزية الصليب».
- «مدخل لدراسة العقائد الهندية».
- «التيوزوفية: تاريخ دين مزيف».
- «السلطة الروحية والسلطة الزمنية».
- «أحوال الوجود المتعددة».
- «عروض نقدية».
- «سيادة الكم وعلامات الزمان».
- «الميتافيزيقا الشرقية».
- «الثالوث الأعظم».
- «مبادئ الحساب التفاضلي».
- «لمحات عن الباطنية المسيحية».
- «البدايات» دراسة في الماسونية الحرة وجماعات الأخوة (جزءان).
- «الصور التراثية والدورات الكونية».
- «لمحات عن الصوفية الإسلامية والطاوية».
- «لمحات في التصوف المسيحى».
- «التلفيق الروحي وتحقيقه» 1952م.
وفاته:
أتاه المصير المحتوم في 7 يناير سنة 1951م، تحيط به أسرته الكريمة، ثم ودعته الوداع الأخير.
ولقد وصف الكاتب المشهور أندريه روسو -حيث كان في القاهرة إذ ذاك- جنازة الشيخ عبد الواحد؛ فكتب في جريدة «الفيجارو» الفرنسية، يقول:
«شيعت جنازته في اليوم التالي لوفاته، وسار في الجنازة زوجه وأطفاله الثلاث، واخترقت الجنازة البلدة إلى أن وصلت إلى مسجد سيدنا الحسين حيث صُلي عليه، ثم سارت الجنازة إلى مقبرة الدراسة.
لقد كانت جنازة متواضعة مكونة من الأسرة ومن بعض الأصدقاء، ولم يكن فيها أي شيخ من مشايخ الأزهر، ودفن الشيخ عبد الواحد في مقبرة أسرة الشيخ محمد إبراهيم.
وكان آخر ما قال لزوجه: «كوني مطمئنة، لن أتركك أبدًا، حقيقة إنك لا ترينني، ولكنني سأكون هنا وسأراك».
ويضيف روسو: «والآن حينما لا يلتزم أحد أطفالها الهدوء؛ فإنها تقول له: كيف تجرؤ على ذلك مع أن والدك ينظر إليك؛ فيلتزم الطفل السكون في حضرة والده اللامرئي».
المراجع:
1- الفيلسوف المسلم عبد الواحد يحيى «رينيه جينو». د/ عبد الحليم محمود- مكتبة الإيمان- العجوزة 2006م.
2- أوروبا والإسلام. د/ عبد الحليم محمود- مطابع الأهرام التجارية- القاهرة 1973م.
3- قضية التصوف، المدرسة الشاذلية. د/ عبد الحليم محمود- دار المعارف- القاهرة 1999م.
4- المستشرقون. نجيب العقيقي- دار المعارف- القاهرة 1965م.
5- الجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء. محمد كامل عبد الصمد- الدار المصرية اللبنانية- القاهرة 1995م.
6- مقالات من «رينيه جينو». د. زينب عبد العزيز- دار الأنصار- القاهرة.
7- لماذا أسلم هؤلاء؟ أحمد حامد- مطبوعات الشعب- القاهرة 1976م.
8- «رينيه جينو»: مدخل عامل إلى فهم النظريات التراثية. ترجمة: عمر الفاروق عمر- نشر المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2003م- الطبعة الأولى.
9- مجلة التواصل. ليبيا- العدد الثاني.
10- صحيفة القاهرة. العدد 344- 14 نوفمبر 2006م.