من المعروف – كما يقول الأستاذ الدكتور عامر النجار- أنَّ السيد أحمد البدوي عربي خالص، انحدر أصله من أشرف وأكرم البيوت العربية، وينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه.
وقد انتقل أجداده إلى مدينة فاس المغربية حوالي عام 73هـ - 692م، عندما اضطربت أحوال الجزيرة العربية، وولد أحمد بفاس في زقاق الحجر، ويحتمل أن يكون ذلك في عام 566هـ (1199 – 1200م)([1]).
ويقول الشيخ أحمد حجاب في كتابه عن البدوي: (اتفق جميع المؤرخين على أن في أجداد سيدي أحمد البدوي من الأئمة الاثنى عشرية تسعة أئمة، وهم: الإمام علي كرم اللَّه وجهه، وابنه الإمام الحسين المتوفى سنة 61 هجرية، وابنه الإمام محمد الباقر المتوفى سنة 113 وقبل سنة 117، وابنه جعفر الصادق المتوفى سنة 220، وابنه علي الهادي المتوفى سنة 254، وهم على هذا الترتيب مثبتون في النسب الذي رواه المقريزي، وأثبت المقريزي من بعدهم جعفرًا، وابنه حسنًا، وجعفر هو أخو حسن العسكري الشهيد، وحسن هو ابن أخي حسن العسكري الشهيد، سمي باسم عمه([2]).
وسيدي أحمد البدوي، هو أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن عمر بن علي بن عثمان بن حسين بن محمد بن موسى بن يحيى بن عيسى بن علي بن محمد بن حسن بن جعفر بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ويذكر المقريزي، أنَّه شهد بصحة نسبته جماعة من أئمة المعاصرين، منهم: القاضي عبد الوهاب بن التلميذ، والسيد عبيد بن محمد الشريف الحسني، الحاكم بالمدينة المنورة، وأودعت نسخة من هذا النسب بدار الرصاص، بالمدينة المنورة.
ومن هنا نلاحظ أنَّ نسبه ينتهي إلى سيدنا الحسين بن علي وليس سيدنا الحسن رضى الله عنهما، وهذا على خلاف ما نراه من صوفية المغرب الذين هم من أصل مغربي؛ إذ تعودنا أن نرى أن نسبهم ينتهي إلى سيدنا الحسن رضى الله عنه.
يقول الدكتور علي صافي([3]): (وأما صوفية المشرق في العراق ومصر والشام، وفي فارس وبلاد خراسان، فإنَّهم عودونا الانتساب إلى الحسين، والسبب في انتساب المشارقة إلى الحسين والمغاربة إلى الحسن راجع فيما أعتقد إلى أنَّ المشارقة كانوا كالشيعة في محاولة الوصول إلى الحكم والاستئثار بالسلطة. أمَّا الذين انتسبوا إلى الحسن فكانوا يدعون الخلافة الباطنية غير حافلين في شيء بخلافة أهل الظاهر، حيث زعموا أنَّ اللَّه عقد للحسن الخلافة الباطنية، بعد أن نزل لمعاوية عن الخلافة الظاهرية([4]).
وعلى ما ذكرنا، فإنَّه كان بمدينة فاس المغربية سنة 596هـ، وكان سادس إخوته، وعرف منذ صغره بصمته الطويل، ونظره الطويل إلى السماء، (وقد كانت أحوال البدوي في نشأته وحداثة سنه غريبة عجيبة، فقد ذكروا أنَّه كان يلزم الصمت، ولا يكلم الناس إلا بالإشارات، وأنَّه كان يظل أكثر أوقاته شاخصًا بعينيه إلى السماء([5]).
ويقول صاحب (الجواهر السنية): (ويقال إنَّ ميوله نحو الزهد أخذت تظهر منذ ذلك الدور المبكر؛ حتَّى لقبه قومه في طفولته بالزاهد، كما يقال إنَّه لبس خرقة التصوف في فاس على يد الشيخ عبد الجليل النيسابوري، وكان الشريف حسن شقيق السيد أحمد البدوي، قد أخذ خرقة التصوف عن ذلك الشيخ، فجمع أخاه أحمد عليه ليلبسه هو الآخر خرقة التصوف)([6]).
وفي سنة 603هـ، هاجرت أسرة السيد أحمد البدوي والده وجميع أشقائه إلى مكة، وقد استغرقت هذه الرحلة من فاس إلى مكة حوالي أربع سنوات، وقد مروا بمصر في طريقهم من فاس إلى مكة، وعاشوا فيها فترة تقدر بحوالي ثلاث سنوات.
ويقال عن قصة انتقال أسرة البدوي من فاس إلى مكة أنَّ أباه عليًّا جاءه الهاتف في المنام: يا علي ارحل من هذه البلاد إلى مكة المشرفة فإن لنا في ذلك شأنا وكان ذلك حوالي عام 603هــــ على ما ذكرنا.
وقال الشريف حسن شقيق البدوي: «فما زلنا ننزل على عرب ونرحل عن عرب فيتلقونا بالترحيب والإكرام حتى وصلنا إلى مكة المشرفة في أربع سنين([7])».
ويتابع القصة الشريف حسن فيقول: «فلما وصلنا إلى مكة وعلم الناس بقدومنا إليها هرع الناس علينا وسلموا علينا واعتقدوا فينا الخير وأتى إلينا سلطان مكة وأشرافها قال: وسمع بقدومنا أهل مدينة النبي ×وأشرافها فجاءوا إلينا وتعرفوا بنا، أما سلطانها فإنه لما جاء إلينا وسلم علينا قال لنا: أين الشريف أحمد الملثم.. اجمعوا بيني وبينه فإن جدي رسول الله ×وصفه لي وأراني صفته وحليته في المنام وقال لي: يخرج من المغرب وهو ابن سبع سنين ويدخل مكة وهو ابن إحدى عشر سنة وأشار لي أن أسير إليكم وأجتمع بكم وأسلم عليكم وعلى الشريف أحمد الملثم وأتبرك به وقال لي: إنه سيظهر له حال وأي حال ويربي المريدين يجيء منهم رجال وأي رجال فقال له والدي: إن هذا الولد حديث السن ومن أين يقدر على هذا الحال وهو هو هذا أو غيره؟ فقال: أعد أن جدي رسول الله ×أراني صفته وحليه ففي أنفه شامة سوداء من كل ناحية أصغر من العدسة وهو أقنى الأنف صبيح الوجه فلما حضر سيدي أحمد البدوي ورآه السلطان عرفه بالصفات فقام إليه واعتنقه وأجلسه إلى جانبه([8]).
وقد ذكر الشعراني وصفًا للسيد البدوي فقال: «كان غليظ الساقين طويل الذراعين، كبير الوجه، أكحل العينين، طويل القامة، قمحي اللون، وكان في وجهه ثلاث نقط من أثر جدري، في خده الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتان، أقنى الأنف، على أنفه شامتان في كل ناحية شامة سوداء أصغر من العدسة، وكان بين عينيه جرح موسى، جرحه ولد أخيه الحسين بالأبطح حين كان بمكة([9])».
ويتبين لنا مما سبق أن أسرة البدوي رحلت عن فاس ببلاد المغرب عام 603هــــ واستقرت بمكة المكرمة حوالي عام 607هــــ. وأن أسرة البدوي أثناء سفرها لمكة استقرت حوالي ثلاث سنوات بأرض مصر.
وقد يكون السيد البدوي، الذي كان في حوالي السابعة أو الثامنة من عمره حتى سن العاشرة أي في فترة طفولته وصباه المبكر قد سمع عن مدينة «طندتا» المصرية أو رآها فظلت في مخيلته صورة باهتة عنها علقت في ذهنه منذ صباه في أرض مصر.
المهم، كما اتضح لنا أن أسرة البدوي بعد رحيلها من فاس استقرت بمكة وعاشت عيشة طيبة هناك حتى فجعت بوفاة الشريف علي والد الإمام السيد البدوي سنة 627هــــ. وبعد ذلك بحوالي أربع سنوات أي حوالي سنة 631هــــ توفي محمد شقيق السيد البدوي فلم يبق من أخوته الذكور سوى شقيقه الأكبر حسن الذي تولى رعاية أحمد.
وقد لزم السيد البدوي منذ صباه العكوف على العبادة والقيام وتعود الذهاب إلى مغارة في جبل أبي قبيس قرب مكة يتعبد فيها وحده .
وحوالي سنة 634-1227م وهو في حوالي الثامنة والثلاثين من عمره قرر الرحيل إلى العراق.
ويقال: إن شيخ الطريقة البدوية سيدي أحمد البدوي رأى رؤيا تأمره بالرحيل إلى العراق. يقول إمامنا الأكبر فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الإسلام: أولياء الله لا يتصرفون بأنفسهم، إنهم وقد أسلموا نفوسهم لله لا يتصرفون إلا بتوجيه منه سبحانه، ولا يعملون إلا بإذن الله تعالى، وقد يكون هذا التوجيه، أو هذا الإذن رؤيا يراها الولي، أو يكون إلهاما أو يكون انشراح صدر بسبب الاستخارة يمر بها الولي «ويدلل الإمام الأكبر على ذلك بقول العزيز الحكيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ =٣٠-نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ=٣١-نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ =٣٢-﴾[فصِّلت: 30-32].» فالملائكة تتحدث مع أولياء الله بنص القرآن([10]).
أما الدكتور سعيد عاشور فيقول عن رحلة السيد البدوي للعراق: «يبدو أن السيد أحمد أدرك أن مكة مع عظيم مكانتها أضيق من أن تتسع لطموحاته وآماله، ففكر في الهجرة منها إلى بلد واسع الإمكانيات البشرية والمادية. والعراق أرض الأئمة والأقطاب. يؤيد رأينا هذا أن الرواة عللوا رحلته إلى العراق برؤية رآها قيل له فيها: لا تنم! فمن طلب المعالي لا ينام.. وحق آباؤك الكرام سيكون لك حال ومقام»([11]).
ومهما كان السبب فقد سافر السيد البدوى مع أخيه حسن إلى العراق سنة 634هــــ وطاف معه شمال العراق وجنوبه وزارا أم عبيدة مركز الطريقة الرفاعية كما زارا مقام سيدي عبد القادر الجيلاني. واشتاق الشريف حسن لرؤية زوجه وأولاده فاستأذن أخاه أحمد فأذن له.
واتجه بعد ذلك سيدي أحمد البدوي إلى شمال العراق لزيارة ضريح عدي بن مسافر الهكاري صاحب الطريقة العدوية. وهناك قرب الوصول في شمال العراق حدث صراع بين السيد البدوي وبين امرأة جميلة اسمها فاطمة بنت بري.
وملخص القصة أن فاطمة بنت بري هذه كانت امرأة غنية، جميلة، مغرمة بإيقاع الرجال في شباك مالها وجمالها، تلعب بقلوبهم وعواطفهم ثم تتركهم يركعون تحت أقدامها يلهثون.. وكانت فاطمة تبحث بينهم عن الرجل الذي تركع أمامه لا الرجل الذي يركع أمامها.
وكم من أصحاب ذقون طويلة ورجال كانوا من أرباب التقوى والصلاح سقطوا في حبال هذه الأفعى وتهافتوا على القرب منها. ذلك أن صلاحهم كان شكلا وصورة. وكانت تقواهم ضعيفة خائرة. ولهذا كان من السهل على الشيطانة فاطمة بنت بري إغواءهم حتى جاء السيد البدوي فلم تستطع أن توقعه في شباكها الناعمة ولم تقدر عليه فقد وجدت نفسها أمام نوع جديد من الرجال إيمانه صلبا، عقيدته لا تخور أبدا قلبه مشغول بذكر الله لا بذكر الغواني.
وحين دانت للرجل الصالح التقي رجته للزواج بها، لكن السيد البدوي وجد نفسه أمام دعوة كبيرة تحتاج منه إلى تفرغ كامل. والزواج قد يشغله. واستطاع السيد البدوي أن يؤثر فيها ويحولها إلى امرأة متدينة وأخذ عليها العهد ألا تعود إلى ماضيها وغوايتها القديمة وتابت فاطمة توبة صادقة.
هذه هي القصة في خيوطها الحقيقية بلا تزيد أو اختلاق وتقول.
ويبدو أن الذي جعل بعض الكتّاب ينكرون هذه القصة. هو ما دخل عليها من حشو وزيادات بعد أن أضاف إليها بعض المنتسبين إلى طريقة السيد البدوي من عندهم كرامات أسطورية شوهت صورة السيد البدوي وأساءت إليه.
ويكفي أنها جعلت من تلك الواقعة البسيطة التي من الممكن أن تحدث في أي زمان ومكان خرافة لا يصدقها عقل العقلاء بعد أن أضافوا إليها ما أضافوا وكما ترى «ليست أكثر من امرأة لها حال عظيم وجمال بديع، وكانت تسلب الرجال أحوالهم فسلبها سيدي أحمد تحالها وتابت على يديه: أنها لا تتعرض لأحد بعد ذلك اليوم»([12]).
وبعد سنة قضاها السيد البدوي في ربوع العراق شماله وجنوبه عاد إلى مكة سنة 635هــــ-1238م. ويقول الشيخ أحمد حجاب: «كانت رحلة العراق نقطة تحول كبيرة في حياة سيدي أحمد النفسية. فقد أعقب تلك الرحلة تغير ملحوظ في سلوكه وعبادته لم يكن معهودا عليه قبل الرحلة. فكان صيامه وصلاته وقيامه وانتصابه وكلامه إشارة. وتحول بوجهه نحو السماء وقطع النظر عمن في الأرض حتى قلقت عليه أخته الكبرى فاطمة فكانت تنبه أخاها الحسن من نومه ليلا تشكو إليه من حالته وتثبت له قلقها على أخيها أحمد وتقول: ابن والدي إن أخي أحمد قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء ونهاره صائما. وانقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر وله مدة أربعين يوما ما أكل طعاما ولا شرابا([13]).
واستمر السيد البدوي في حياة الزهد والعبادة آناء الليل والنهار.. وفي نفس العام أي سنة 635هــــ-1238م قرر سيدي أحمد البدوي الرحيل إلى مصر.. وإلى طندتا «طنطا» بالذات. وبالطبع فإن رواة سيرته من أتباعه قالوا: إن الهاتف جاءه في المنام وقال له: «قم يا همام إلى طندتا..».
هكذا قال عبد الصمد زين الدين والمناوي والشعراني أنه سافر لطندتا لهاتف منامي فدخلها حوالي سنة 635هــ- وبعضهم يقول: حوالي 634هـــــ. وها هو المناوي في الكواكب الدرية يسقط سقطة تاريخية حين يقول: «ثم سمع هاتفا يقول ثلاثا قم واطلب مطلع الشمس فإذا وصلته فاطلب مغربها وسر إلى طنتدا فيها مقامك أيها الفتى، فسافر إلى العراق، فتلقاه العارفان الجيلاني والرفاعي فقال: يا أحمد، مفاتيح العراق والهند واليمن والشرق والغرب بيدنا فاختر أيها شئت فقال: لا آخذ المفتاح إلا من الفتاح. ثم رحل إلى مصر فتلقاه الظاهر بيبرس بعسكره وأكرمه، وعظمه، فدخلها سنة أربع وثلاثين»([14]).
أما السقطة التاريخية التي وقع فيها المناوي رحمه الله أن بيبرس لم يتول حكم مصر إلا سنة 668هـــــ.. أما سنة 634هــــ فكان يحكم مصر الملك الكامل محمد الأيوبي. كما أن الشيخ الإمام سيدى أحمد الرفاعى توفى سنة 578 هـ ، وتوفى الشيخ عبد القادر الجيلانى سنة 561 هـ، فكيف يذكر المناوى أنهما تلقياه، فهذا خطأ تاريخى محض، وإنما يصح أنه قابل خليفتيهما القائمين بطريقهما بعد.
ومن كتابات عبد الصمد زين الدين والمناوي والشعراني يظهر لنا على ما يقول الدكتور علي صافي: «إن رحلة السيد البدوي إلى مصر كان يكتنفها الغموض. فهم متفقون على أنه ذهب إلى العراق قبل أن يذهب إلى مصر ثم يختلفون في المكان الذي ذهب منه إلى مصر وفي ذكر كيفية دخوله إليها. فعبد الصمد زين الدين يقول: أنه عاد إلى مكة ومنها ذهب إلى مصر، أما الشعراني والمناوي فإن كلام كل منهما يعطي أن البدوي لم يعد إلى مكة، ولكنه اتجه من العراق إلى مصر مباشرة»([15]).
ولقد نبه الأستاذ صلاح عزام في كتابه عن السيد «عبد الرحيم القنائي» إلى خطأ تاريخي آخر وقعت فيه إحدى الروايات التاريخية.. فقال: إن هناك رواية تقول: إن السيد البدوي تبادل مع الشيخ القنائي الرسائل. بل وزاره في قنا. وهي موجودة في بعض الكتب القديمة التي تؤرخ للسيد البدوي.. بل إن محبي السيد البدوي ورجال طرقه يتناولونها إلى اليوم.
ومن المعروف أن الشيخ القنائي تتوفي عام 592هــــ. بينما السيد البدوي تولد عام 596هـــــ. ووصل مصر عام 635هــــ.
ولكن من الجائز أن يكون السيد البدوي قد زار الشيخ القنائي كعادة من عادات الأقطاب أن يزوروا الأولياء فقبل مجيئه طنطا زار أولياء العراق وأقطابه كما ذكرنا سابقا.
وانتهى بالسيد البدوي المطاف لأرض طنطا واستقر بها حتى وافته المنية سنة 675هـــــ.
وإذا أردنا أن نعلل مجيئه إلى طنطا مباشرة نقول : إنه قد يكون للسيد البدوي فكرة عن طنطا وعن موقعها الممتاز وتوسطها القاهرة والإسكندرية فاتجه إليها وإلى دار تاجر هناك اسمه ابن شحيط فسكن سطح داره «ولعل ابن شحيط هذا هو الشيخ ركن الدين الذي كان يقال له ركين الدين فقد رأيت في بعض التراجم أن الشيخ ركن كان له دكان بسوق طنتا يبيع فيه العسل والزيت والعلف وغير ذلك»([16]).
وعلل البعض تفضيل إقامة البدوي فوق سطح الدار لتفضيل البدوي العيش وسط الطبيعة يرى بديع صنع الله في نجومه وسمائه وكواكبه وشجره وحره وبرده ورعده ومطره. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ=١٩٠-الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ=١٩١-﴾[آل عمران: 190-191]فكان البدوي بهذا الرأي فضل الإقامة فوق سطح الدار ليتأمل صنع القادر الحكيم ويسبحه آناء الليل وأطراف النهار.
وقد يرجع هذا عندنا إلى أن الإمام البدوي كان حييًا فاستحيا أن يعيش داخل الدار فيحد من حرية صاحب الدار وأهله. وقد يكون ذلك أيضا لتأثره بالعراقيين وقد عاش بينهم عاما، فأهل العراق يفضلون النوم فوق السطح في شهور الصيف شديدة الحرارة.
وفوق السطح عاش البدوي وحوله الأتباع من السطوحيين. ويقال: إن غيابه كان أكثر من حضوره وكانت تأتي عليه الأربعين يوما لا يأكل فيها ولا يشرب ولا ينام، وهو شاخص ببصره إلى السماء.. وكان إذا عرض له حال يصيح صياحا متصلا ويكثر من الصياح وهذا ما جعل الناس تتحير في أمره، لكن سرعان ما زال شكهم إلى حد ما حينما لمسوا بركاته. فدخل في طريقته قوم لا يحصون واتسعت شهرته وعمت الآفاق.
هذه صورة سريعة عن رحلات السيد الشريف الملثم([17]) السطوحي الصامت سيدي أحمد البدوي.
والحق أن شخصية البدوي شخصية ثرية خصبة بالغت فيها كتب المناقب والمحبين حين حاولوا أن يجعلوا من البدوي أسطورة غريبة. فغربوا الرجل وطاروا به عن عالم الواقع ليقدموه لنا صورة أقرب إلى صورة القوة والقدرة فإنه لا يتحرك إلا بأمر ورؤيا منامية كما رأينا ولا ينتقل من مكان إلى مكان إلا بهاتف منامي يأمره بأن يرحل إلى العراق أو طنطا. بل زعموا أنه «كان يخاطب الأولياء السابقين والصوفية المتقدمين، ويتصل بأهله في مكة، ويرى النبي صلوات الله وسلامه عليه ويصعد إلى السماء ويشاهد ما يقدر وراء الغيب للخلائق ويطلع على مشاهد الجنة والنار، وكل هذا عن طريق الرؤيا في المنام»([18]).
ويقول البعض: «ومثل هذا الهاتف المنامي لا يمكن للباحث أن يضعه تحت حكم قاطع جازم بالصدق أو الكذب، فإن علم النفس لا ينكره، بل يبرره ما دام العقل مشغولا به متلهفا عليه، وما يفكر الإنسان فيه يقظة يحلم به مناما.. فمرجع الصدق والكذب في هذا إلى الشخص نفسه، وقد يكون السيد رأى هذه الرؤيا أو رأى بعضها، أو لم ير شيئا منها قط، وقد يكون هذا كله من تلفيقات الدارسين والأتباع»([19]).
وليس الإمام أحمد البدوي وحده هو الذي لا يتحرك من مكان إلى مكان إلا برؤيا. فالحق أن الرؤيا تكاد تكون صفة عامة يشارك فيها البدوي كثير من الصوفية.
وبعد.. فإن الرأي الذي نقول به: إن البدوي كان رجلا تقيًا ورعًا جاء من قبل رفاعي العراق بعد أن توفي رجلهم الكبير أبو الفتح الواسطي شيخ الطريقة الرفاعية بمصر.. أرسلوه عوضا عن الواسطي لما توسموا فيه من صلاح وزهد وذكاء أيضا. ولهذا نجد أن ذكاء البدوي قد وضح بمجرد مجيئه مصر وانتشار طريقته البدوية السطوحية بها انتشارًا سريعا.
المرجع : الطرق الصوفية في مصر ، نشأتها ونظمها ، أ/د عامر النجار ، القاهرة:مكتبة الأنجلو المصرية ، د ت، (ص 147- 157).
([1]) (دائرة المعارف الإسلامية)، ص465.
([2]) كتاب الشيخ أحمد حجاب: (العظة والاعتبار) آراء في حياة السيد البدوي الدنيوية وحياته البرزخية، ص113.
([3]) (الأدب الصوفي في مصر في القرن السابع الهجري)، ص146.
([4]) ذكر هذا السيوطي بالنص في مخطوطه (تأييد الحقبقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية)، دار الكتب ، تحت رقم 2014 تصوف، وقد ذكر ذلك الأستاذ الدكتور علي صافي، بهامش كتابه، ص146.
([5]) (الأدب الصوفي في مصر في القرن السابع الهجري) للدكتور صافي، ص147.
([6]) (الجواهر السنية) لعبد الصمد زين الدين، ص20.
([7]) طبقات الشعراني ص158 ، 159.
([8]) الجواهر السنية ص29.
([9]) الطبقات الكبرى للشعراني جـــ1 ص247.
([10]) كتاب السيد أحمد البدوي للدكتور عبد الحليم محمود ص52 ، 53.
([11]) كتاب السيد البدوي للأستاذ الدكتور سعيد عاشور ص57.
([12]) مشارق الأنوار في فوز أهل الاعتبار للشيخ حسن العدوي الحمزاوي ص186.
([13]) العظة والاعتبار لفضيلة الشيخ أحمد حجاب ص130.
([14]) الكواكب الدرية للمناوي مخطوط بدار الكتب تحت رقم260 تاريخ ورقة322.
([15]) الأدب الصوفي في مصر في القرن السابع الهجري للدكتور علي صافي صفحة148.
([16]) مخطوط النصيحة العلوية في بيان حسن طريقة السادة الأحمدية، المخطوط تأليف الشيخ علي الحلبي، موجود بمكتبة الأزهر نسخة في مجلد تحت رقم (1540) 12945 ورقة22.
([17]) اللثام هو ما كان على الفم من النقاب. والبدوي الذي ولد وشب في شمال أفريقيا أخذ هذه العادة عن الملثمين واحتفظ بها طوال حياته، وإن كان بعض أتباعه يحاول أن يفسر ذلك تفسيرا آخر.. يقول الشيخ أحمد حجاب في كتابه العظة والاعتبار ص88: «.. كان يحدق ببصره نحو السماء لا لنظر في النجوم ولكن ليطالع تجليات الحق ويتابع أنوار الذات. ومن كثرة هذه المطالعة انطبعت على محياه هذه الأنوار وتركت أثرا ظاهرا يقرأه كل واحد. فكان يستر وجهه باللثامين ليحجب عن الأعين آثار تلك الأنوار».
([18])كتاب السيد البدوي: لفهمي عبد اللطيف ص46.
([19]) كتاب السيد البدوي: لفهمي عبد اللطيف ص46.