(الإمام العلامة المحدث)
(1315- 1402هـ/ 1897ـ 1982م)
رحمه الله تعالى
نسبه ومولده:
هو الإمام العلامة المحدِّث الشيخ محمد زكريا ابن الشيخ محمد يحيى ابن الشيخ إسماعيل الكاندهلوي المدني، شيخ الحديث بالهند وأحد كبار المحدِّثين في العالم الإسلامي، وهو ابن عم الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي وزوج أخته، وهو الذي أشرف على تربيته وتوجيهه، ويصفونه بأنه ريحانة الهند وبركة العصر، كان شيخ الحديث والمشرف الأعلى لجماعة التبليغ.
وهو الرجل الثالث، وصاحب كتاب «تبليغي نصاب»، أي: منهج التبليغ.
ولد لإحدى عشرة ليلة خلت من رمضان سنة 1315هـ/ الموافق 2 فبراير 1898م، في «كاندهلة» من أعمال «مظفر نكر» قرب «دهلي»، في بيت عريق في العلم والدين، امتاز رجاله وأسلافه بعلو الهمة وشدة المجاهدة، والتمسك بالدين والصلابة فيه، والحرص على حفظ القرآن وقراءته، وطلب العلوم الدينية.
نشأته وأسرته:
فتح عينيه في بيت عريق في العلم والصلاح والتقوى منذ عهد بعيد، ونشأ في تربية والده، الذي كان وحيدَ العصر في مزاياه العلمية والعملية الباهرة، ومفاخره السائرة، والذي كان يحفظ القرآن والحديث.
حفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم عن والده ورعاه رعاية دقيقة، حتى كان يأمره أن يقرأ ما يحفظه من القرآن مائة مرة.
وقرأ مبادئ اللغة الأردية والفارسية على عمه الجليل الشيخ محمد إلياس ابن الشيخ إسماعيل الكاندهلوي صاحب دعوة التبليغ المشهورة، الذي كان من رأسه إلى قدمه إخلاصًا للدعوة الإسلامية وإصلاح الأمة، وقد أثمرت نهضتُه المباركة فشرَّقت وغربت، وسارت بها الركبان إلى أقطار الأرض، وملأت بركتُها الآفاق.
ثم قرأ بقية العلوم والفنون وعدة من كتب الحديث، بعضها على والده، وبعضها على مشايخ مدرسة مظاهر العلوم بـ«سهارنفور»، التي كانت معهدًا كبيرًا من أكبر المعاهد العلمية بعد دار العلوم الديوبندية ...
فقرأ كتب الصحاح الستة مرة على والده، ومرة أخرى قرأ «الصحيحين» مع «سنن أبي داود» و«سنن الترمذي» مع «الموطأ» لمالك و«شرح معاني الآثار» على الإمام المحدث الكبير الشيخ خليل أحمد الأيوبي الأنصاري، وهو الذي كان يجمع بين علوم الفقهاء والمحدثين وعلوم الأولياء والعارفين، وجمع بين مآثره الظاهرة ومفاخره الباطنة، صاحب مكاشفات وكرامات، وكان حجة قاطعة لرقاب أهل البدع وأهل الهوى، وأصبح مدارًا لاتباع السنة ورد البدع.
فنشأ نشأة صالحة في ظل هؤلاء العلماء الربانيين من الفقهاء والمحدثين وأرباب القلوب، وترعرع شابًّا صالحًا تقيًّا نقيًّا، تلمع في جبينه المتهلل آثار نجابة وسعادة، تنم عن مستقبل ساطع لامع.
وقد أدرك الإمام الرباني الشيخ الكنكوهي؛ فنال بركاتٍ من دعواته وعنايته، وقد توفي الشيخ، وكان عمره حينها ثمانية أعوام.
دراسته ورحلته في طلب العلم:
نقل إلى «كنكوه» وهو قريب العهد بالفطام، فدب ودرج بين الصالحين والعلماء الراسخين، ثم انتقل مع والده سنة 1328هـ إلى «سهارنفور»، وأقبل على العلم واشتغل به بهمة عالية وقلب متفرغ.
وبدأ درس الحديث الشريف على والده، فقرأ عليه الصحاح غير «سنن ابن ماجه» سنة 1333هـ.
ثم قرأ «صحيح البخاري» و«سنن الترمذي» على العالم الجليل والمربي الكبير خليل أحمد السهارنفوري سنة 1334هـ.
ولزم شيخه خليل أحمد الأيوبي الأنصاري، وساعده في تأليف كتابه: «بذل المجهود شرح سنن أبي داود»، وصحبه إلى الحج وأجازه إجازة عامة، وخلفه فآلت إليه بعده مشيخة الحديث، وصار يلقب بشيخ المحدثين وأقبل عليه الطلاب.
وأبدى شيخه رغبته في وضع شرح لـ«سنن أبي داود»، وطلب منه أن يساعده في ذلك، وأن يكون له فيه عضده الأيمن وقلمه الكاتب، وكان ذلك مبدأ سعادته وإقباله، فكان الشيخ خليل يرشده إلى المظان والمصادر العلمية التي يلتقط منها المواد، فيجمعها الشيخ محمد زكريا ويعرضها على شيخه، فيأخذ منها ما يشاء ويترك ما يشاء، ثم يملي عليه الشرح فيكتبه، وهكذا تكَّون كتاب: «بذل المجهود في شرح سنن أبي داود» في خمسة أجزاء كبار، وفتح ذلك قريحَته في التأليف والشرح، ووسَّع نظرَه في فن الحديث، ثم اهتم بطبعه في المطابع الهندية والعناية بتصحيحه وإخراجه.
وقد تلقى علمًا جمًّا غزيرًّا من فقيه هذه الأمة في عصره ومحدثها وعارفها وحكيمها وزعيمها: مولانا الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله، المتوفى سنة 1323هـ.
فارتوى وتضلع من منابع علمه الصافية فقًها وحديثًا، كما ارتوى من أكابر مشايخ عصره في بقية العلوم روايتها ودرايتها، منقولها ومعقولها.
رحل إلى إفريقيا وباكستان للدعوة، ثم جاور في آخر حياته في المدينة المنورة بمدرسة العلوم الشرعية، وكان قد حصل على الجنسية السعودية.
وطاف أنحاء العالم الإسلامي وتتلمذ عليه كثيرون، ثم قدم المدينة المنورة واستوطنها إلى أن كانت منيته فيها.
عمله وتدريسه:
عُين مدرسًا للحديث الشريف وغيره من العلوم المختلفة بمدرسة «مظاهر العلوم» التي تخرج منها، وكان يدرس فيها شيخه ووالده من قبل، غرة محرم سنة 1335هـ وهو أصغر الأساتذة سنًّا، حيث كان عمره عشرين عامًا، وأسند إليه تدريس كتب لا تسند عادة إلى أمثاله في العمر، فسرعان ما فوض إليه تدريس «مشكاة المصابيح»، وعدة أجزاء من «صحيح البخاري»، بأمر شيخه الإمام الشيخ خليل أحمد، ثم تدريس «سنن أبي داود»، حتى اشتهر بشيخ الحديث، وأصبح شيخ الحديث لقبًا لازمًا لاسمه الكريم، وقلما يعرفه أحد إلا بهذا اللقب الكريم.
وأثبت المدرس الشابُّ جدارتَه وقدرته على التدريس، حتى أصبح رئيس أساتذة هذه المدرسة ومن كبار مدرسيها، وانتهت إليه رئاسةُ تدريس الحديث أخيرًا.
وبعد وفاة الشيخ عبد اللطيف مدير المدرسة آل إليه تدريس «الجامع الصحيح» بكامله، فواظب عليه مدة طويلة مع ضعف بصره وأمراضه الكثيرة، ولم يعتذر عنه إلا في أول السنة الدراسية في سنة 1388هـ.
وكان اشتغاله بالتدريس طول هذه المدة تطوعًا وتبرعًا، لا يأخذ في ذلك أجرًا ولا يبتغي جزاء ... وهذا يدل على ورعه وإخلاصه.
إجازته وخلافته عن شيخه:
وعندما سافر بصحبة شيخه السهارنفوري إلى الحج عام 1344هـ، حصلت له في الحجاز الإجازة العامة والخلافة المطلقة عن الشيخ خليل أحمد، وفي هذه الرحلة وأثناء إقامته في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، بدأ في تأليف كتاب «أوجز المسالك في شرح الموطأ» لإمام دار الهجرة، وهو في التاسعة والعشرين من عمره.
بدأ في تأليفه في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبارك الله له في الكتابة والتأليف؛ فأكمل في بضعة شهور ما لم يكمله في سنين عديدة في الهند، ووصل في الشرح إلى أبواب الصلاة، وظل مشتغلًا به بعد عودته إلى الهند، تتخلله فترات طويلة حتى أكمله في ستة أجزاء كبار.
شيخ الحديث:
وعاد إلى الهند مكرمًا محببًا مثقلًا بالأعباء، قد شخصت إليه الأبصار، وارتفعت إليه الأصابع، واتجهت إليه القلوب، فأقبل على التدريس بجميع همته، وتوفي شيخه في الحجاز فآلت إليه المشيخة ورئاسة تدريس الحديث، والإشراف على تربية أصحابه، والاتصال بمراكز العلم المنتشرة حوله، وبالجماعات الدينية التي تلوذ به وتلتقي عليه وتصدر عن رأيه، وأصبح بيته ملتقى العلماء والطلبة، لا تشغله المطالعة وما فُطر عليه من حب العلم والانزواء والخلوة، من البشاشة وبذل الود وطيب النفس، ولا يشغله كل ذلك عن الاشتغال بربه والانفراد بعبادته ومناجاته، وعن تربية المريدين، وعن حضور حفلات التبليغ، وعن وضع كتب ورسائل في الإصلاح والدعوة إلى الله، في أسلوب سهل يتنزل فيه إلى مستوى العامة، وقد تُلقيت هذه الرسائل بقبول عام، وانتفع بها خلق لا يحصون، وظهرت لها طبعات لم تتيسر إلا لكتب دينية معدودة في عصرنا.
برنامجه اليومي:
كانت أوقاته مشغولة بأمور نافعة، فإذا صلى الفجر جلس قليلًا مشغولًا بحزبه وورده، ثم يخرج إلى بيته ويجلس مع الناس، ثم يطلع إلى غرفة مطالعته فيشتغل بالمطالعة والتأليف، ولا يزوره في هذا الوقت إلا من يطلبه، أو من يكون مستعجلًا من الضيوف، وغرفته هذه تُذَكِّر بالسَلَفِ المنقطعين إلى العلم والتأليف؛ فهي آية في البساطة والتقشف، ومجردة من كل زينة وتكلف.
فإذا كان وقت الغداء نزل وجلس مع الضيوف الذين يكثر عددهم عادة، وهم من طبقات شتى، فيؤنسهم ويلاطفهم، ويبالغ في إكرامهم والتفقد لما يسرهم، فإذا صلى الظهر اشتغل بإملاء الرسائل والرد عليها قليلًا، وكانت تتراوح ما بين 40 إلى 50 رسالة يوميًّا، ثم يخرج إلى الدرس، وكان يشتغل به ساعتين كاملتين قبل العصر، فإذا صلى العصر جلس للناس، وإذا صلى المغرب اشتغل طويلًا بالتطوع والأوراد، ولا يتناول طعام العشاء عادة إلا إكرامًا لضيف كبير.
صفاته وأخلاقه ومزاياه:
وقد أراد الله بمشيئته أن يحيا من طفولته إلى كهولته في غاشية من رحمة إلهية، كَسَتْهُ أنفاسًا قدسية من هؤلاء أرباب القلوب، فوهبه الله نفسًا مطمئنة وروحًا طاهرة نقية خفيفة، وذوقًا ووجدانًا وتوفيقًا عظيمًا إلى كل خير، من عبادة وتقوى وتدريس وتأليف، وشمائل كريمة، من طلاقة وجه، وحسن لقاء، وكرم نفس، وإكرام ضيف، ورقة في الطبيعة، وبشر دائم متهلل.
كان -رحمه الله- مربوع القامة، أبيض اللون مشربًا بحمرة، خفيف الروح، كثير الدعابة، سريع الدمعة، كث اللحية، يلبس طاقية ونظارة.
وهو كثير النشاط لا يعرف الكسل، بشوش ودود، سريع الدمعة جريح المقلة، كلما ذُكر شيء من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو الأولياء، أو أُنشد بيت رقيق مرقق، فاضت عيناه وتملكه البكاء، وهو يغالبه ويخفيه فتنم عليه الدموع، وليس الحديث له صناعة وعلمًا فحسب، بل هو ذوق وحال يعيش به ويعيش فيه.
سافر إلى الحج للمرة الخامسة في صفر الخير عام 1389هـ، وصاحبه فيه العلامة أبو الحسن الندوي، وذكر أنه كان شديدَ الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، شديد الحب له والشوق إليه، وكان يجلس تجاه أقدامه عليه الصلاة والسلام ساعات متواليات مشغولًا مراقبًا رغم ضعفه وكبر سنه وعلله الكثيرة، لا يفتر ولا يشبع من ذلك، وكان يتمنى البقاء في هذه البقعة المباركة وفي هذا الجوار الكريم، حتى يفارق الدنيا ويلحق بربه ...
ومن أعظم مفاخره المغتبطة: أن حياته كلَّها لم تنقض منها ساعة ضائعة، فحياته مليئة بالاستفادة والإفادة، والعبادة والذكر، والتدريس والتأليف، وإصلاح النفوس والهداية والإرشاد.
ومن مفاخره: أنه عالم وحيد في أهل عصره، لم يكتسب بعلمه وتدريسه الحديث راتبًا، وإنما درس متبرعًا محتسبًا لله، غير راتب زهيد في أول عهده بالتدريس، وعاش عيشة زهيدة من مكتبته التجارية المتواضعة.
حاول واجتهد أن تزول تلك المنافرة بين أرباب المراكز العلمية، فحاول بقلمه ولسانه أن تزول تلك المنافرة العصرية التي كانت في طبقات أهل العلم بين سهارنفور وديوبند وتهانه بون وأهل الندوة، فتقاربت بجهده البليغ هذه المراكز المتنافرة.
دفاعه عن التصوف:
انشغل الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي بقضيتين عظيمتين، كما ذكر ذلك تلميذه الشيخ عبد الحفيظ المكي حيث قال:فالفتن كثيرة وحملات الباطل متنوعة، ولكن من أعظمها أثرًا في المتدينين خاصة اثنتان:
أحدهما: نزع الحب والولاء الفكري عن السلف الصالح، وذلك في الدرجة الأولى عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الدرجة الثانية عن أئمة الهدى الأئمة الفقهاء المجتهدين المتبوعين، الذين بذلوا الجهود العظيمة لتنقيح الأحكام الشرعية وحفظِها للأمة، التي أجمعت دائمًا على مختلف عصورها سلفًا وخلفًا على ثقافتهم وإخلاصهم وعلو باعهم، وكمالهم العلمي والتحقيقي في هذا الشأن.
وثانيها: إيجاد البلبلة الفكرية عن الناحية الروحانية والسلوك في الإسلام، واتهام الكاملين العارفين المتقين فيه بأنهم طبقة لا علاقة لها بالإسلام، وإن كانت لها علاقة، فالإسلام لا علاقة له بهذه الروحانيات والأخلاق والصفات الباطنة الشريفة.
ثم عرض الشيخ لقضايا من الأهمية بمكان مكين، نافح فيها ودافع عن أهل الله من الصوفية، مبرزًا أدلتهم وأذواقهم، كل هذا بوضوح عبارة وجزالة لفظ، وها نحن نعرض لأهم هذه القضايا:
القضية الأولى: فها هو يقول في الرد على من قال: إن أشغال «القادرية» و«الجشتية» و«النقشبندية» المخصوصة لم تكن في عهد الصحابة والتابعين؛ لذلك فهي بدعة سيئة.
يقول: «إن الأمر الذي لأجله أوجد المشايخ أولياء الطريقة هذه الأشغال وصلنا مسلسلًا من عهده صلى الله عليه وسلم، ولو أن طرق الحصول عليه كانت مختلفة، ففي الحقيقة: أولياء الطريقة متابعون لمجتهدي الشريعة، فمجتهدو الشريعة جعلوا الأصل: استنباط الأحكام لظاهر الشريعة، وأولياء الطريقة اجتهدوا للحصول على باطن الشريعة، ويقال لها: (الطريقة)، وجعلوا لها قواعد مختلفة، فالظن في هذا أنه بدعة سيئة خطأٌ واضح.
نعم، صحيح أن الصحابة رضي الله عنهم بسبب صفاء طبعهم، وحصولهم على النسبة الباطنة ببركة وجوده صلى الله عليه وسلم بينهم، لم يكونوا في حاجة إلى هذه الأشغال، بخلاف المتأخرين، فلأجل بُعدهم عن زمن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم احتاجوا إلى هذه الأشغال المذكورة.
كما أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يحتاجون في فهم القرآن والحديث إلى تعلم النحو والصرف وعلوم اللغة العربية، ولكن أهل العجم في كل عصر -والآن بالفعل العرب أيضًا- يحتاجون إلى هذه الأشياء».
والشيخ يبرز أمرًا غاب عن كثيرين، فيبين أن الصحابة ليسوا في حاجة إلى هذه المجاهدات؛ إذ قد وصلوا حقًّا لمقام الإحسان، وكيف لا ونظرة إلى وجه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تضيء القلوب والعقول، يقول رحمه الله، فيما نقله عن مولانا النواب قطب الدين: «ففي زمن الصحابة رضي الله عنهم كانت شمس الرسالة صلى الله عليه وسلم مشرقة تضيء القلوب، فلم تكن هناك أية حاجة إلى الأشغال للحصول على الإحسان والحضور مع الله عز وجل، وبنظرة واحدة إلى ذلك الوجه المنير كان يحصل على ما لا يمكن الحصول عليه الآن في أشغال الأربعينيات الكثيرة، وبما أنه قد غربت تلك الشمس المشرقة الآن، احتيج من أجل ذلك إلى الأشغال؛ للحصول على هذه القوة والكيفية الحضورية الإحسانية».
القضية الثانية: من هو الشيخ؟ وما الحاجة إليه؟
والشيخ في هذه القضية يبرز من هو الشيخ الذي ينبغي أن يُتبع؟ فيقول في صفة الشيخ –نقلًا عن ولي الله الدهلوي:
«اتفقت كلمة المشايخ على أن لا يتكلم على الناس إلا من كتب الحديث وقرأ القرآن، اللهم إلا أن يكون رجل صحب العلماء الأتقياء دهرًا طويلًا وتأدب عليهم، وكان متفحصًا عن الحلال والحرام، وقَّافا عند كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فعسى أن يكفيه ذلك، والله أعلم».
ويقرر الشيخ الكاندهلوي أن الشيخ الذي يتبع لا بد أن يكون متحققًا بما يلي، فيقول بأن من شروطه:
- العدالة والتقوى: فيجب أن يكون مجتنبًا الكبائر، غير مصرٍّ على الصغائر، قال الإمام الشيخ عبد العزيز الدهلوي في الحاشية: «شرطت التقوى في المرشد؛ لأن البيعة شُرعت لتصفية الباطن وتزكيته، والإنسان مجبول على اقتداء أفعال أبناء نوعه، ولا يكفي للتصفية القول فقط بدون العمل، فالمرشد الذي لا يكون متصفًا بأعمال الخير واكتفى بالقول الحسن، فإنه نصاب وقاطع طريق».
- أن يكون زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، مواظبًا على الطاعات المؤكدة، والأذكار المأثورة المذكورة في صحاح الأحاديث، مواظبًا على تعلق القلب بالله سبحانه ...
- أن يكون آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، ذا رأي ولا يكون إمعة ليس له رأي ولا أمر، ذا مروءة وعقل تام ليعتمد عليه في كل ما يأمر به وينهى عنه، قال الله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾[البقرة: 282]، فما ظنك بصاحب البيعة!
- أن يكون صحب المشايخ، وتأدب بهم دهرًا طويلًا، وأخذ منهم النور الباطن والسكينة، وهذا لأن سنة الله جرت بأن الرجل لا يُفلح إلا إذا رأى المفلحين، كما أن الرجل لا يتعلم إلا بصحبة العلماء، وعلى هذا القياس غير ذلك من الصناعات، ولا يشترط في ذلك ظهور الكرامات والخوارق ولا ترك الاكتساب، لأن الأول ثمرة المجاهدات لا شرط الكمال، والثاني مخالف للشرع، ولا تغتر بما فعله المغلوبون في أحوالهم، إنما المأثور القناعة بالقليل والورع من الشبهات.
وقال الإمام الشيخ عبد العزيز الدهلوي: كذلك لا يشترط أن يختار الترهب التام، أي يشق على نفسه في العبادات كصوم الدهر، وسهر الليالي، والخلوة عن الناس، وترك النساء، واجتناب لذائذ المأكولات أو المشروبات أو الألبسة، أو الخروج إلى الصحارى والبراري، ونحوها؛ لأن هذه الأمور من التشدد في الدين، والتشدد على النفس، وقد نُهينا عن ذلك، ولا رهبانية في الإسلام. انتهى بتصرف.
القضية الثالثة: وهي ما يصدر عن بعض أكابر الصوفية من كلام مخالف للشريعة (الشطحة)، والشيخ كعادته يزن هذه القضية بميزان الشرع الشريف، ويبين أنهم معذورون في هذا، لكنهم لا يُقلدون فيه، فيقول -رضي الله عنه:
يكون في كلام الأكابر عبارات يفتي فيها أهل الظاهر أحيانًا حتى بالكفر، مثل هذه العبارات والألفاظ إذا نطق بها في حال غلبة الشوق أو السكر فلا تكون سببًا للتكفير، ولا يجوز تقليدهم فيها أبدًا، وقد ورد في الحديث الشريف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح»، وقد وردت هذه الرواية في «صحيح البخاري» و«مسلم» عن ابن مسعود وأنس رضي الله عنهم بألفاظ مختلفة.
يقول العارف التهانوي في «التشرف» (ص108) بذيله: وتبين من هذا الحديث أن خطأ المغلوب معفوٌ عنه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على خطأ الشخص بعد نقله، مع أنه كان بسبب شدة الفرح وهي حالة ناشئة عن الدنيا؛ إذًا فما بالك بالذي يكون مغلوبًا بمحبة الله عز وجل والشوق إليه سبحانه، فهي من الكيفيات الناشئة عن الدين. انتهى قوله.
ثم في قصة السيدة عائشة رضي الله عنها حينما اتُهمت، ثم نزلت براءتها في القرآن من عند الله عز وجل، فأمرتها والدتها أن تقوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكانت رضي الله عنها في حالة تحمُّس- فقالت كما ورد في «صحيح البخاري» و«مسلم» وغيرهما: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل ... الحديث.
يقول العارف التهانوي -رحمه الله- في «التكشف» (ص506): لقد نُقل عن بعض الصالحين نظمًا أو نثرًا كلمات يوهم ظاهرُها إلى إساءة الأدب، فإن كانت هذه في حالة غلبة الحال، فيقال لها «الشطح» أو «الإدلال»، وقول الصدِّيقة رضي الله عنها هذا أيضًا من هذا القبيل، ومنشأ شدة الهم لسبب خاص، وهو أنه صلى الله عليه وسلم –نفسه- باقتضاء بشريته وعدم علمه للغيب، كان مشوشًا ومترددًا في أمرها، وكانت الصدِّيقة رضي الله عنها قد اطلعت على هذا التردد، فكانت قلقة وحزينة بأن واأسفاه؛ حتى الرسول صلى الله عليه وسلم قد اشتبه في أمرها، فعند نزول الوحي الإلهي ببراءتها تحمست وصدر منها هذا الجواب، وبما أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها؛ فثبت من الحديث الشريف كون أهل الشطح والإدلال معذورين. انتهى.
وورد أيضًا عن السيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها، بأن قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غَضْبى، قالت: فقلت: وكيف ذلك؟! فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت: أجل والله ما أهجر إلا اسمك».
هذه قصص الحب والدلال، يعلمُها أهل المحبة والوداد، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحس وشعر بأسلوب قسمِها، وبما أن ذلك أيضًا كان من دلال الحبيبة رضي الله عنها؛ لذا لم يُنكر عليها).
وهكذا قضى الشيخ رحمه الله حياته مدافعًا عن الحق، مصححًا المفاهيم، واضعًا الأمور في نصابها، مع تمام المحبة لله ورسوله وآل بيته عليهم السلام، حتى كان يعز عليه العودة إلى بلاده ومغادرة المدينة المنورة، إلا أن دعوات المسلمين وما يعانونه في الهند من مشكلات ومسائل تطلب بقاءه بجوارهم، وما تعانيه المدارس الدينية من أزمات ومعضلات، وما تحتاج إليه في الهند جماعة التبليغ من إرشاد وتوجيه وإشراف ومراقبة، اضطرته إلى العودة، فعاد في شهر ذي القعدة 1389هـ، ومر في طريقه بباكستان فتهافت عليه الناس تهافت الفراش على النور، والتفوا حوله في كل مكان كان ينزل فيه.
ثم عاد إلى المدينة المنورة وجاور في جوار المسجد النبوي، عاكفًا على العبادة والذكر، والإملاء والإرشاد، والتربية الروحية وتزكية النفوس، والحث والتشجيع على الدعوة إلى الدين ونشره، والقيام بأعباء التعليم الديني وفتح المدارس، والتعاون على البر والتقوى، متمنيًا على الله أن يلقى الحمام في جوار الرسول عليه الصلاة والسلام، ويجد مكانًا في البقيع بجوار الصحابة وأهل البيت الكرام.
عهد تأليفه:
عندما بدأ الشيخ الإمام خليل أحمد في شرحه على «سنن أبي داود»، فأصبح له خير معين في البحث والجمع وتصفح الأوراق وتفحص المظان؛ وكان خير وسيلة لترشيحه في التأليف وتربية ملكة التصنيف، تحت رعاية شيخه، حتى فاز بسعادة مزاملته في رحلة الحج، فرافقه وزامله، وتم بمساعدته تأليف كتاب «بذل المجهود شرح سنن أبي داود» بالمدينة المنورة زادها الله نورًا، حين تم له العقد الثالث من عمره، وكان خير تمرين له بالتأليف والبحث.
ثم بالمدينة المنورة في تلك البقعة المقدسة الطاهرة، في جوار القبر الأنور والضريح الأطهر على صاحبه صلوات الله وسلامه، بدأ بتأليف «شرح الموطأ»، وأتمه في ستة أجزاء كبيرة بعد عودته إلى البلاد، والعود أحمد.
مؤلفاته وآثاره:
ألف في أكثر الفنون وشتى العلوم: في الحديث، والفقه، والتفسير، والتاريخ، والتراجم، والصرف، والنحو، والمنطق، والحكمة.
وتميزت كتب هذا الإمام النابغة بالضبط التام، والتحقيق والإتقان، وعمق البحث والاعتدال، وكثرة المصادر، وتقدر ثروته العلمية التي تركها من بعده فوق مائة مؤلف، ما بين رسالة في صفحات وكتاب ضخم في عدة مجلدات.
وله من المؤلفات ما يزيد على 140 مؤلفًا، منها المطبوع ومنها المخطوط، فمن أهم وأشهر مؤلفاته المطبوعة:
1ـ «أوجز المسالك إلى موطأ مالك» في ثمانية عشر مجلدًا.
قدم له العلامة أبو الحسن الندوي.
2ـ «تعليقات على بذل المجهود شرح سنن أبي داود» في أربعة عشر مجلدًا.
3ـ «تعليقات لامع الدراري على جامع البخاري» لأبي مسعود رشيد أحمد الكنكوهي، وقدم له العلامة أبو الحسن الندوي.
4ـ «تعليقات الكوكب الدري على جامع الترمذي» 4 مجلدات.
5ـ «حجة الوداع وجزء عمرات النبي صلى الله عليه وسلم» مجلد.
قدم له العلامة أبو الحسن الندوي.
6ـ «الأبواب والتراجم لصحيح البخاري» مجلد، وقدم له العلامة أبو الحسن الندوي.
7ـ «أسباب سعادة المسلمين وشقائهم».
8ـ «وجوب إعفاء اللحية».
9ـ «الشريعة والطريقة» مجلد.
10ـ «المودودي ماله وما عليه».
11ـ «الأستاذ المودودي ونتائج بحوثه وأفكاره».
12ـ «مكانة الصلاة في الإسلام».
13ـ «فضائل الدعوة إلى الخير».
وألف كتبًا عديدة بالأردية، منها:
«شرح شمائل الترمذي».
«حكايات الصحابة».
وكتب أخرى في الفضائل:
فضائل الذكر والصلاة والصيام والزكاة والحج، وفضائل الصلاة على النبي عليه صلوات الله وسلامه، وغيرها.
ألفها هداية وإرشادًا للناشئة الحديثة، فأقبلوا عليها إقبالًا عظيمًا، وقد نفع الله بها نفعًا كبيرًا، وأصلح الله بها أمة، وأصبحت هذه الكتب والرسائل وسيلة إرشاد وخير لأرباب دعوة التبليغ، فجعلوها كمنهج علمي لأهل التبليغ يقرؤونها ويدرسونها دراسة حفظ وإتقان.
وفاته :
توفي رحمه الله رحمة واسعة في المدينة المنورة في أول يوم من شعبان سنة 1402هـ، يوم الاثنين بعد العصر، وشُيعت جنازته في جمع عظيم، ودفن بجوار شيخه المحدث خليل أحمد السهارنفوري في البقيع، غفر الله له ورفع درجاته.
المصادر:
انظر ترجمته في:
1ـ كتاب «الدر الثمين بأسانيد الشيخ تقي الدين».
نقلاً عن:
ـ «الإمام العلامة المحدث محمد زكريا وآثاره في علم الحديث الشريف» للدكتور ولي الدين الندوي
ـ «مقدمة أوجز المسالك».
ـ «تذكرة حياته» للشيخ أبي الحسن الندوي.
2ـ «ذيل الأعلام».
نقلاً عن:
ـ محمد يوسف البنوري وأبو الحسن الندوي في مقدمة كتابه: «أوجز المسالك»، وانظر ما كتبه عن نفسه في مصنفه «أوجز المسالك».
ـ «مجلة المسلمون» (السعودية).
3ـ «تتمة الأعلام».
4ـ «تكملة معجم المؤلفين».
نقلاً عن:
ـ «بلوغ الأماني»- «تشنيف الأسماع»- «البعث الإسلامي»- «الفيصل».
5ـ «إتمام الأعلام».
نقلاً عن:
ـ «شخصيات وكتب أثرت في حياتي».
- «كتاب الشريعة والطريقة».
- وله ترجمة في «البعث الإسلامي».