فكرة الأكاديمية ودواعي إنشائها
ترجع فكرة إنشاء الأكاديمية العالمية لدراسات التصوف إلى الإمام محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية رضي الله عنه، وذلك لأجل النهوض بالدعوة الروحية كأساس لإصلاح الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، في زمان طغت فيه الماديات حتى غمرت حياة الناس بمختلف طبقاتهم وأعمالهم وعقائدهم وأوطانهم، فخلفت من الموبقات والسلبيات والمآسي ما تحترق لمجرد ذكره الصدور؛ مما هو مسجل ومعروف في المعاملات والعلاقات بين الأفراد والجماعات والشعوب والحكومات والدول والتكتلات، حتى لم يبق من المعاني العالية في الإنسان والمجتمع شيء يبشر بخير أو هداية؛ إلا مَن عصم الله.
والدعوة الروحية هي دعوة إلى الصلاح والإصلاح؛ فالإصلاح بلا صلاح لا معنى له، وهي دعوة إلى الحياة؛ فجسد بلا روح لا قيمة له، وهي دعوة إلى الحضارة؛ فكل حضارة، على حد تعبير الإمام الرائد في قصيدته «حديث الرحيل» لا سهم فيها لرب العرش (إثم) قد نعيت، وهي دعوة إلى الإنسانية، فليست الإنسانية هذه المنظورات التالفة التافهة، وإنما هي شيء آخر، هو السر الإلهي الذي سخر الله الأكوان له والعوالم، هو الأرواح وآثارها الطبيعية من الخير والجمال والرحمة والنور والحب والسلام والتقدم والإنتاج والحكمة والتسامي والإيمان واليقين والعلم والمعرفة.
ولقد أصيبت الحضارة الإسلامية في مقتل يوم أن غفلت الأمة عن التصوف في حياتها وواقعها فتوقفت علوم الدين عند ظاهر الرسوم من أعمال الجوارح والظواهر دون حقيقتها من أعمال القلوب والسرائر، وتوقفت علوم الدنيا عند ظواهر الطبيعة وعوارضها والاستغراق في تفصيلاتها وهوامشها دون النفاذ إلى حقائقها والتعرف إلى أصولها ومبادئها.
وقد أنتج ذلك على الصعيد الديني خللاً حاداً في المعاملات، وانحطاطا في الأخلاق، وتدهوراً في القيم، وانقلاباً للنظم والمعايير، وانفصاماً في الشخصية، فضلاً عما تعانيه الأمة من عداء مذهبي، واختلاف ينذر بالإبادة، مع الانشغال بالخلافات الفرعية؛ مما مكَّن أعداءها منها وألهاها عن أكبر الأخطار التي تحيق بها وتكاد أن تجهز عليها، أما على الجانب الآخر؛ فقد أثمر ذلك تباطؤاً لعجلة الإنتاج وتخلفا للإبداع وتفاقماً لمشاكل الاقتصاد وسوءاً لتوزيع الدخل وتخبطا في السياسة، وغير ذلك مما تضيق به القائمة، الأمر الذي أدى إلى اختلال موازين العلاقات الدولية بين الشرق والغرب اختلالاً أحدث شروخاً جسيمة وانفصامات حادة في الشخصية الحضارية لأمة الإسلام، دفعها -كرد فعل خاطئ- إلى الإسراع قُدماً في نفس طريق الغرب الرأسمالي المادي بلا روية، معتقدة أن في ذلك تعويضاً لها عن التخلف الذي عانت منه قرابة ثلاثة قرون مضت، وهي لا تدري أنها بذلك تدق المسمار الأخير في نعشها، وتمهد السبيل لفنائها.
ولذلك كانت فكرة هذه الأكاديمية كنواة للجامعة الصوفية العالمية بهدف إعادة الروح إلى علوم الدين والدنيا معاً، فما من حكم في عالم الشهادة إلا ويستند إلى أصل في عالم الغيب، وما من قانون في عالم المادة إلا وهو محكوم بقوانين عالم الروح يدور معها وجوداً وعدماً، وما من ظاهر في عالم الطبيعية إلا وهو انعكاس لحقيقة فيما وراءها، وذلك سائر في العلوم كافة، وهو ما عبر عنه الإمام زروق في «قواعده» رحمه الله بقوله:
للعامي تصوف حوته كتب المحاسبي ومن نحا نحوه، وللفقيه تصوف رامه ابن الحاج في «مدخله»، وللحديث تصوف حام حوله ابن العربي في «سراجه»، وللعابد تصوف دار عليه الغزالي في «منهاجه»، وللمتريض تصوف نبَّه عليه القشيري في «رسالته»، وللناسك تصوف حواه «القوت» و«الإحياء»، وللحكيم تصوف أدخله الحاتمي في كتبه، وللمنطقي تصوف نحا إليه ابن سبعين في تأليفه، وللطبائعي تصوف جاء به البوني في «أسراره»، وللأصولي تصوف قام الشاذلي بتحقيقه. فليعتبر كل بأصله من محله.
إن هذا المفهوم البعيد المرامي للعلم والحضارة هو سر أي إصلاح وتقدم تتطلع إليه الأمة، وبه يستطيع المسلم أن يفهم حقيقته ووظيفته وأن يستعيد اعتباره، وأن يعمل ليستكمل العدة التي يسترد بها ما فقده من حسيات ومعنويات، هي أثر خلافته على الأرض يوم أن كان ملوك أوروبا وكبراؤها -كالإمبراطور فردريك الثاني صاحب الشهرة الكبرى وغيره- يتلقون العلوم إلى جانب عوام المسلمين في جامعات الأندلس، وعنهم نقلوها إلى لغاتهم وأقاموا عليها حضاراتهم، ويوم أن كان السادة في علوم الدنيا -ناهيك عن علوم الدين- من المسلمين كمحمد بن موسى وابن يونس المصري في الفلك، والحسن بن الهيثم في الطبيعة، وابن سينا والرازي في الطب، وابن البيطار وداود في الصيدلة، وابن رشد في الفلسفة، والإدريسي في الجغرافيا، والطبري في التاريخ، وابن خلدون في العلوم الاجتماعية، وغيرهم كثير.
ثم إن هذاالمفهوم فيه أيضاً خدمة وإصلاح للتصوف الحق، وتميزه من التصوف الخبيث وتطهيره من الأشخاص والمشخصات التالفة ومكافحة أدعيائه وتنقيته من المبتدَع والمستنكر والدخيل والمدسوس، وحمايته من أعدائه وخصومه ومدمريه حتى تعود إليه حيويته ودولته في النفوس والشعوب، ويصبح أداة إيجابية في الحياة الإسلامية، باعتبار أن التصوف هو عقيدة الجمهور المسلم في مشارق الدنيا ومغاربها، وهو في ذات الوقت خط دفاع وصمام أمان وتطهير للمجتمعات الإسلامية من جماعات التطرف وعصابات الحمقى وتجار التمذهب الاستعماري ومحترفي التكفير والتشريك والتبديع والاتهام بالردة والزندقة.. إلى آخر ما هنالك من مهازل أذلت الأمة ومكنت منها أعداءها.
طبيعة المناهج الدراسية بالأكاديمية
روعي في مناهج الدراسة بالأكاديمية أن تستند في المقام الأول إلى نفس الأطر والمناهج المقررة بالأزهر الشريف، مع استلهام الأعماق الغيبية والأبعاد الصوفية لهذه المناهج والعلوم بهدف ربط الدين بالدنيا، والعقل بالقلب، والغيب بالشهادة، والملك بالملكوت، والمعقول بالمنقول، والمادة بالروح، وهكذا.
فدراسة الفقه في مناهج المعهد مثلاً لا تتوقف عند دراسة الأحكام الظاهرة للعبادات أو المعاملات؛ إنما تتعداها إلى أسرار هذه الأحكام والحقائق الغيبية التي تستند إليها، وذلك على شاكلة الغزالي في «إحيائه» وابن الحاج في «مدخله» والعلاوي في «المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية» ومصطفى بن يوسف بن سلام في «جواهر الاطلاع ودرر الانتفاع على متن الأصفهاني أبي شجاع»... إلخ.
وينسحب الأمر على التفسير كما هو معروف فيما اصطلح عليه التفسير الإشاري بقواعده وأصوله، وعلوم الحديث كـ«بهجة النفوس» لابن أبي جمرة، وكـ«سراج» ابن العربي، وعلوم اللغة وآدابها كـ«نحو القلوب» للقشيري، و«آجروميات ابن عجيبة»، والأدب الصوفي على اختلاف مشاربه، وغير ذلك في سائر العلوم، ليس الدينية فحسب، بل العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية كافة؛ إذ لا يوجد شيء في عالم الشهادة إلا وهو ظلال لحقائق في عالم الغيب لا تعدو علوم الدنيا التي نعرفها كونها تطبيقات لها، ومن ثم بات الوقوف على الروابط بين هذه الحقائق وتطبيقاتها في عالم الشهادة هو الأساس الأول لأي بناء حضاري يتوافق مع النواميس الكونية، ويقود البشرية إلى السعادة والسلام والرفاهية.
كما روعي في نظام الدراسة الاستناد إلى تنمية إمكانات البحث والفهم والدراية بصفة أساسية دون الإخلال بنظام التلقين والحفظ، كما هو مبين في أحكام هذه اللائحة.
هيئة التدريس بالأكاديمية
روعي في أعضاء هيئة التدريس والبحوث بالأكاديمية أن يكونوا من كبار الأساتذة والعلماء والمفكرين والباحثين ذوي الخبرات المتميزة والقادرين على ترجمة هذا المفهوم المتعمق لمناهج التدريس في العلوم على اختلافها.
أهداف الأكاديمية
تتوخى الأكاديمية من إنشائها تحقيق الأهداف التالية:
أولاً:
ترشيد التصوف ورد الممارسات الصوفية إلى صحيح الكتاب والسنة بفهم العلماءالعاملين من السلف الصالح دون إفراط أو تفريط، مع السماحة وسعة الأفق في الفهم والأداء، ودون ما اعتبار لرسومٍ أو تقاليد صوفية مخالفة لهذا النهج، فالرسمي ما رسمه الله، والشرعي ما شرعه الله، والعرفي ما عرَّفه الله، وبالتالي توجيه الطاقات الإيمانية لدى قطاعات عريضة وجماهير كبيرة في ربوع العالم الإسلامي كله بهدف لم شمل الأمة وجمعها على الأصول والأولويات، واغتنام الممكن والاستفادة من هذه الطاقات الإيمانية في البناء والإصلاح على المنهج الرباني الروحي الأصيل بدلاً من الهدم والتفريق والتكفير الذي تنتهجه بعض الجماعات المتطرفة؛ فالدعوات الهدامة، والأفكار الخبيثة، والحركات الإرهابية لا تقوم إلا في غفلة من وازع الروح والعلاقة بالله سبحانه، ولا تختل الموازين الاجتماعية والقيم الأخلاقية إلا حين تختل العقيدة.
ثانياً:
إيقاظ وإنقاذ الحضارة الإسلامية من مستنقع المادة التي طغت قوانينها بحكم الزمان على كل مناحي الحياة بكافة صورها ومستوياتها، وذلك بردها إلى أصولها الروحية ومناهجها الربانية. (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تُعَلِّمُونَ الكتاب وبما كنتم تدرسون) من خلال استلهام الأعماق الغيبية والأبعاد الصوفية للعلوم المختلفة خاصة الحديثة منها بهدف ربط الغيب بالشهادة والملك بالملكوت والمعقول بالمنقول والمادة بالروح والطبيعة بما وراءها.
فالتعرف على الحقائق شرط أساسي لضمان شرعية أي نظام؛ سياسياً كان أو اقتصادياً أو اجتماعياً، ونجاح كل تطبيق علمي؛ صناعياً كان أو زراعياً أو فنياً أو غيره، وبالتالي يصبح التطور الحضاري إيجابياً موافقاً للنواميس الكونية والسنن الإلهية (سنة الله) (فلن تجد لسنة الله تبديلاً) (ولن تجد لسنة الله تحويلا).
ثالثاً:
ضبط وإعادة التوازن في العلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب الحديث والتي اختلت بفعل تفوق الغرب في مجال الصناعة والتجارة والمال في عصر أصبحت فيه العناصر المادية وحدها هي الجديرة بالاعتبار والقادرة على توجيه دفة الأمور والتأثير في الحوادث التاريخية، الأمر الذي أدى إلى إحداث شروخ خطيرة وانقسامات حادة في الشخصية الحضارية للشعوب الإسلامية، وفي المقابل أغرى صانعي المدنية الحديثة بالتمادي فيما انتهجوه قبلاً من سبيل، وعمق لديهم الاعتقاد بأن ليس هناك إلا نمط واحد من الحضارة هو الوحيد الجدير بالاتباع والتطبيق على العالم أجمع؛ ألا وهو الحضارةالغربية، وأن ليس هناك إلا نمط واحد من الإنسانية ألا وهو الإنسان الغربي، وأن القوانين الوضعية هي معيار العدالة الأوحد، وأن العلوم التجريبية هي مطلق العلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولذلك فإن طرح العلاقات الدولية بهذا الاعتبار الروحي هو القادر على إعادة التوازن، فضلاً عن إيجاد الشروط الضرورية لتحقيق تعاون جاد وليس شكلياً باعتبار أن الروح بطبيعتها وحدةٌ وانسجام، وأن المادة بطبيعتها تفرق وانقسام.
إن استثمار التصوف وترشيده باعتباره رأس المال الطبيعي المتأصل في الأمة سوف يكون أجدى وأنجع من محاولات كثيرة تتسم بالاندفاع دون رؤية للحاق بقطار الغرب الرأسمالي، مع ما يقتضيه ذلك من أثمان باهظة تنفق من المبادئ الثابتة والقيم الأساسية للأمة.
لقد كان التصوف هو رأس مال المسلمين الأوائل من التجار في علاقاتهم الاقتصادية مع الشعوب الأخرى، وكلمة السر للساسة في علاقاتهم الدبلوماسية، ومفتاح النصر للقادة في ميادين المعارك، ووسيلة الإعلام الفعالة في الدعوة ونشر الخير والفضيلة، ومبدأ كل تقدم علمي وبناء حضاري.
ولا شك أن إنشاء مؤسسة علمية لعلوم التصوف قادرة على حمل هذه الرسالة إلى شعوب العالم الآخر سوف يساهم مساهمة فعالة في إعادة رسم العلاقات الدولية على أسس سليمة وعادلة في كافة المجالات.
الشخصية القانونية للأكاديمية
* أكاديمية الدراسات الصوفية هي أحد أهم مؤسسات العشيرة المحمدية وفروعها الهامة التي نادى بإنشائها الإمام محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة والطريقة المحمدية رحمه الله منذ مطلع الخمسينيات، وذلك بوصفها هيئة من الهيئات ذات النفع العام والمشهرة بالشئون الاجتماعية برقم (675) وبمقتضى القرار الجمهوري رقم (750/1968م) ولائحتها الأساسية التي تمنحها حق مزاولة الأنشطة العلمية والثقافية بما فيها إنشاء المعاهد والأكاديميات العلمية.
* تخضع الأكاديمية للإشراف العلمي بجامعة الأزهر، ويقع على عاتقها عبء إحياء التراث الصوفي في علوم الدين والدنيا معاً، وذلك بكشف أسرارها والنفوذ إلى حقائقها ومن ثم تخريج طائفة من العلماء القادرين على فهم وإدراك العلاقة بين الدين والدنيا، والغيب والشهادة، والملك والملكوت، والمعقول والمنقول، ومن ثم تقنين الروابط التي تربط بينها تقنيناً صحيحاً موافقاً للنواميس الكونية، علاوة على تخريج فئة من الدعاة القادرين على حمل هذه المفاهيم المترامية الأبعاد إلى العالم كله فضلاً عن جماهير المسلمين في الأساس المتعطشين إلى إحياء البعد الحضاري في حياتهم.
* تستند الأكاديمية في إنشائها إلى المادة (44) من القانون رقم 118 لسنة 1976 بشأن نظام الطرق الصوفية ولائحته التنفيذية والتي تنص على أن يصدر قرار من رئيس الجمهورية بناء على ما يقترحه المجلس الأعلى للطرق الصوفية، وبعد موافقة مجلس الوزراء بإنشاء معهد أو أكثر للدراسات الصوفية الإسلامية، ويُقبل في الالتحاق به حَمَلَة المؤهلات من المشتغلين بالتصوف من أعضاء الطرق الصوفية، ويحدد القرار النظام الدراسي بهذه المعاهد، ويجب أن يتضمن تحديد مدة الدراسة والمواد التي تدرس في المعهد المذكور والمصروفات التي تحصَّل من كل دارس وتحديد وتقويم الشهادة التي تُعْطَى للخريجين، ويكون لهؤلاء الخريجين أولوية شغل المناصب المختلفة في التشكيلات الصوفية إذا ما توافرت فيهم الشروط الأخرى، كما أن لهم أولوية تمثيل الطرق الصوفية محليا ودوليا.
الدرجات العلمية التي تمنحها الأكاديمية
-
تمنح الأكاديمية الدرجات العلمية التالية:
أولاً: درجة الإجازة فوق المتوسطة للمعاهد فوق المتوسطة (دبلوم فوق متوسط).
ثانيًا: درجة الإجازة العالية (الليسانس أو البكالوريوس) للكليات والمعاهد العليا.
ثالثًا: درجة التخصص (الماجستير) في دراسة من الدراسات المقررة في إحدى الكليات أو المعاهد العليا.
رابعًا: درجة العالمية (الدكتوراه) في أي فرع من فروع الدراسات الصوفية التي تعتمدها الأكاديمية وفقا للائحتها.
كلمة السيد الدكتور محمد مهنا أستاذ القانون الدولي بجامعة الأزهر، أمين عام الدعوة بالعشيرة المحمدية، نائب رئيس الأكاديمية العالمية لدراسة التصوف وعلوم التراث، مستشار شيخ الأزهر للعلاقات الخارجية والتعاون الدولي.