التصوف الفلسفي
د. أحمد شوقي إبراهيم العمرجي
يذكر الإمام العلامة الدكتور علي جمعة أنه لا تعدد في وجوه التصوف، إنما التعدد في أحواله ومقاماته التي ينبني عليها الوجه الأوحد للتصوف وهو التوجه لفاطر السموات والأرض في كل حال، ويظهر هذا الوجه في قوله تعالى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(1) (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(2).
ولكن تنوعت الأقوال في تعريف التصوف وتكثرت، تبعًا لتنوع الأحوال والمقامات، وخير شاهد نسوقه هنا قول الصوفية أنفسهم من أن (الصوفي ابن وقته) لا يكفي عند الصوفية في سلوكهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى مجرد العلم، فمجرد قراءة كتب التصوف عندهم بلا معاناة يُعد متعة ذهنية، وثقافة عقلية، قد تشارك فيها النفس الأمارة بالسوء، فتكون طريقًا إلى الضلالة طردًا أو عكسًا، أما المنح الروحية من الله تعالى فهي نتيجة الجهود والأعمال، فالصوفية أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، وعندهم لم ينل المشاهدة من ترك المجاهدة(3).
والصوفية في الجانب العلمي لايكتفون بالجانب الكسبي:أي جانب التعلم من الكتب ولكنهم قرأوا في كتاب الله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)(4).
فتعلقت آمالهم بهذا العلم الآتي مباشرة من الله، وتطلعت أمانيهم إلى هذا العلم الذي هو من عند الله، واتخذوا الطريق إليه، والطريق إليه رسمه الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله الكريم.إنه الجهاد في سبيل الله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(5).
وهو العمل بما علموا «من عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يعلم» (وهو تحقيق العبودية لله تعالى، ومن حقق العبودية لله كان الله سمعه وبصره) كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به».
وشعار الصوفية على وجه العموم فيما يتعلق بالعلم، هو شعار أستاذهم وقدوتهم وحبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كان شعاره (قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(6).
وإذا كان أهل الظاهر قد فرحوا بعلمهم الظاهر واكتفوا به، فإن الصوفية قد حصلوا هذا العلم ولم يكتفوا به، لقد شاركوا علماء الظاهر في علمهم، ولكن علماء الظاهر لم يشاركوهم إلهاماتهم وإشراقاتهم، ونذكر في هذا المجال: الإمام الغزالي والشيخ الشاذلي، والشيخ عبد القادر الجيلاني، والشعراني وغيرهم(7).
لم يعتمد أصحاب التصوف الفلسفي على الكتاب والسنة فقط بل أضافوا إلى المصدر الديني الإسلامي مصادر خارجية من بينها المصدر اليوناني والمصدر الفارسي والمصدر الهندي، ومعنى هذا لكي نفهم أبعاد التصوف الفلسفي فلا بد أن يكون واضحًا لدينا ضرورة القول بأن أصحاب التصوف الفلسفي قد اعتمدوا على مصدرين وليس مصدر واحد، وهما المصدر الديني الإسلامي من جهة والمصدر الأجنبي الخارجي من جهة أخرى(8).
وقد ضم التصوف الفلسفي أشتاتًا من الثقافات الأجنبية جاءت مع حركة الترجمة والاختلاط المباشر والاحتكاك الحضاري بالأديان القديمة التي اصطدم بها الإسلام في البلاد المفتوحة وهو تصوف نظري مبني على النظر الفكري والدراسة والبحث(9).
ويوضح لنا د.أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني أستاذ الفلسفة الإسلامية وقد كان رحمه الله شيخًا لمشيخة الطرق الصوفية في مصر، مفهوم التصوف الفلسفي بقوله: التصوف الفلسفي في الإسلام تصوف آخر يختلف في الطابع عن التصوف السني، والمقصود بالتصوف الفلسفي، التصوف الذي يعمد أصحابه إلى مزج أذواقهم الصوفية بأنظارهم العقلية، مستخدمين في التعبير عنها مصطلحًا فلسفيًّا استمدوه من مصادر متعددة، وقد امتزج بالفلسفات الأجنبية مثل اليونانية والفارسية والهندية والمسيحية، وهو تصوف غامض ذو لغة اصطلاحية خاصة، وقد زاد أولئك المتفلسفة على المتصوفة السنيين بأمور:
أولها: أنهم أصحاب نظريات أو مواقف من الوجود بسطوها في كتبهم وأشعارهم.
وثانيها: أنهم أسرفوا في الرمزية إسرافًا إلى حد بدأ معه كلامهم غير مفهوم للغير.
وثالثها: اعتدادهم الشديد بأنفسهم وبعلومهم، وهو اعتداد إن لم يلازمهم كلهم، فقد لازم أكثرهم على الأقل.
ويعتبر السهروردي المقتول من أوائل متفلسفة الصوفية في الإسلام واسمه أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك، ويلقب بشهابالدين ويوصف بالحكيم، وهو من أهل القرن السادس الهجري، فمولده بسهرورد حوالي سنة 550 هجرية ومقتله بأمر صلاح الدين الأيوبي في حلب سنة 587 هجرية ومن هنا عرف بالمقتول تمييزًا له عن صوفيين آخرين هما: أبو النجيب السهروردي المتوفى سنة 563 هجرية، وأبو حفص شهاب الدين السهروردي المتوفى سنة 632 هجرية، وهذا الأخير مؤلف كتاب «عوارف المعارف»، وكان السهروردي المقتول متعمقًا في الفلسفة، وقد أثار متفلسفة الصوفية فقهاء المسلمين، واشتدت الحملة عليهم لما ذهبوا إليه من القول بالوحدة الوجودية، وكان أبرز من حملعليهم ابن تيمية المتوفى سنة 827 هجرية(10).
ويرفض الرائد محمد زكي الدين إبراهيم التصوف الفلسفي، فيقول: لا أعرف أن الكتاب والسنة نقلا عن المجوسية والبوذية والرهبانية شيئًا أبدًا وإنما هو الغل الموروث للتهم الكواذب وتضليل خلق الله.
وإذاكان المراد بالتصوف هو هذه الفلسفات الأجنبية عن العقيدة والشريعة فهذا باب آخر لا علاقة له بتصوف أهل القبلة، والاحتجاج بهؤلاء علينا فيه تلبيس الحق بالباطل، ثم إن أخذ البرئ بذنب المجرم: فعلة دنيئة.
على أن الذين اشتهروا بهذا الجانب الفلسفي، ممن ينسبون إلى التصوف، عدد محدود، وسواء قبلت فلسفتهم التأويل والتوجيه-ولو من وجه ضعيف- أو لم تقبل، فهؤلاء انتهى أمرهم نهائيًّا، وليس لفلسفتهم اليوم معتقد، ولا دارس وقد أصبحت كتبهم بما فيها من الأفكار أشبه بنواويسالموتى: تعرض إذا عرضت - للزينة، أو التاريخ والعبرة، فليس بين صوفية عصرنا من يرى رأيهم، أو يذهب مذهبهم، سواء على ظاهره، أو مع تأويله.
والغاضبون على التصوف يحتجون بهؤلاء، وقد انتهى أمر هؤلاء، فقد كانت مذاهبهم شخصية، لا تجد طريقها إلى الجماهير، والحكم على الكل بذنب البعض أمر بعيد عن العلم والعدل(11).
لا يغني في هذه التجربة الصوفية مجرد العلم، ولا توصل إليها دروب الفلسفة، فالعلم والفلسفة أعمال عقلية، وهذه التجربة من الأعمال القلبية الوجدانية، وشتان ما بينهما(12).
يقول الإمام الشاذلي: لا تنشر علمك ليصدقك الناس، وانشر علمك ليصدقك الله(13).
ليس من التصوف: القول بالحلول أو الإتحاد أو الوحدة التي تزعم أن الكون هو الله، والله هو الكون، وما جاء مما يوهم ذلك على لسان بعضهم فهو مؤول بما يوافق دين الله، أو هو مدسوس على القائل، أو هو مما قاله في حالة الفناء والغيبوبة على لسان الحق عز وجل ونحن نستغفر الله للجميع، ونحسن الظن بكل مسلم(14).
إن التصوف ليس عملاً علميًّا ولا بحثًا نظريًّا، إنه لا يُتعلم بواسطة الكتب على الطريقة المدرسية، بل إن ما كتبه كبار مشايخ الصوفية أنفسهم لايستخدم إلا كحافز مقو للتأمل.
والإنسان لا يصير بمجرد قراءته، متصوفًا، على أن ما كتبه كبار الصوفية لا يفهمه إلا من كان أهلاً(15).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنعام، آية: 79.
(2) سورة الأنعام،آية: 162.
(3) د. علي جمعة محمد: «البيان لما يشغل الأذهان» ج2 ص211، ص227-228 (القاهرة، 2008م).
(4) سورة الكهف، آية: 65.
(5) سورة العنكبوت، آية: 69.
(6) سورة طه، آية: 114.
(7) د. عبد الحليم محمود: «السيد أحمد البدوي» ص 18-19 (دار المعارف الطبعة الرابعة).
(8) د. عاطف العراقي: «مقدمة كتاب التصوف السني، حال الفناء بين الجنيد والغزالي» للدكتور مجدي محمد إبراهيم، ص 1-2 (مكتبة الثقافة الدينية، تقديم: د. عاطف العراقي، الطبعة الأولى 2002م) .
(9) د. عرفان عبد الحميد فتاح: «نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها» ص 6، ص21 (دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1993م).
(10 ) د. أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني: «مدخل إلى التصوف الإسلامي» ص 19، ص 187، 192-193 (دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة الطبعة الثالثة).
(11) محمد زكي الدين إبراهيم: «أبجدية التصوف» ص 19-20 (مؤسسة إحياء التراث الصوفي).
(12) محمد زكي الدين إبراهيم: «الخطاب» ص 12-13 (تحقيق: حسن محمود، الطبعة السابعة).
(13) ابن عباد: «المفاخر العلية» ص 77 (مكتبة الحسين الإسلامية، القاهرة).
(14) محمد زكي الدين إبراهيم: «مفاتح القرب» ص 16 (الطبعة، الثامنة 1999م).
(15) د. عبد الحليم محمود: «المدرسة الشاذلية» ص 359-360 (طبعة دار المعارف).