نسخة تجريبيـــــــة
السيدة زينب الكبرى - رضي الله عنها
السيدة زينب الكبرى رضي الله عنها:
هي: بنت فاطمة البتول، بضعة سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم.
أبوها:سيف الله الغالب سيدنا عليُّ بن أبي طالب.
وجدتها: خديجة بنت خويلد.
وأخواها الشقيقان: الإمام أبو محمد الحسن، والإمام أبو عبد الله الحسين رضي الله عنهم جميعًا.
ولادتها وزواجها وأولادها:
وُلدت بعد مولد الحسين بسنتين، وكلاهما ولد في شهر شعبان. أمَّا هي ففي السنة الخامسة أو السادسة للهجرة، فعاصرت إشراق النبوة عِدَّةَ سنوات، وسَمَّاهَا الرسول صلى الله عليه وسلم «زينب»؛ إحياءً لذكرى ابنته (زينب) التي استشهدت في (بدر) بعد أن طَعَنَهَا مشرك في بطنها، وهي حامل، ومعنى زينب: الفتاة القوية المكتنزة الودودة العاقلة.
واشتهرت زينب بجمال الخِلقة والخُلُقِ، اشتهارها بالإقدام والبلاغة، وبالكرم وحسن المَشُورَةِ، والعلاقة بالله، وكثيرًا ما كان يرجع إليها أبوها وإخوتها في الرأي ويأخذون بمشورتها؛ لبُعْدِ نظرها وقوة إدراكها.
تزوجت بابن عمها عبد الله بن جعفر (الطيَّار) بن أبي طالب، وكان عبد الله هذا فارسًا شهمًا نبيلًا كريمًا، اشتهر بأنه (قطب السخاء)، وهو أول طفل ولد أثناء الهجرة الأولى بأرض الحبشة، وهو يكبُر (زينب) بخمس سنوات؛ أي إنه عاصر إشراق النبوة عشر سنوات، ومنه أنجبت ذكورًا وإناثًا، ملئوا الدنيا نورًا وفضلًا، وهم: جعفر، وعلي، وعون الأكبر، ثم أم كلثوم، وأم عبد الله، وإليهم ينسب الأشراف الزَّيَانِبَة، وبعض الأشراف الجعافرة(1).
إذنها لزوجها بالزواج من أخرى:
ولَمَّا شُغِلَتْ السيدة زينب رضي الله عنها بأمر الدعوة مع أخويها الإمامين الحسن والحسين رضي الله عنها، وكان لها درس دوري حافل تُثَقِّفُ فيه النساء، وتُعَلِّمُهُنَّ أمور الدين والدنيا، ولَمَّا رأت أنها لا تستطيع أن تجمع بين واجب الجهاد وواجب الزوجية؛ أذنت لزوجها عبد الله بن جعفر أن يتزوج، فتزوج (الخوصاء الوائلية)، ورزق منها بـ (محمد وعبيد الله) اللذين استشهدا مع الإمام الحسين في كربلاء، ثم تزوَّج عبد الله بـ (جمانة الفزارية) بنت المسيب أمير التوابين (الذين خرجوا بعد مقتل الحسين رضي الله عنه على ابن زياد؛ من أجل أهل البيت)، ورُزِقَ منها بـ (عون الأصغر) الذي استشهد يوم الحرة مع أبي بكر أخيه من الخوصاء زوجة أبيه.
مشاركتها في الأحداث الكبرى:
ولمَّا خرج الإمام الحسين رضي الله عنه في جهاد الغاصب الفاسد (يزيد بن معاوية) شاركته (زينب) في رحلته وقاسمته الجهاد، فكانت تثير حَمِيَّةَ الأبطال، وتشجع الضعفاء، وتخدم المقاتلين، وقد كانت أبلغ وأخطب وأشعر سيدة من أهل البيت خاصة، والنساء عامة في عصرها.
ولما قُتِلَ الحسين وساقوها أسيرة مع السبايا، وقفت على ساحة المعركة تقول: «يا محمداه! يا محمداه! هذا الحسين في العراء، مزمَّل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه! هذه بناتك سبايا، وذريتك قتلى، تسفي عليها الرياح»، فلم تبقَ عين إلا بكت، ولا قلب إلا وجف.
كما كان لها مواقفها الجريئة الخالدة مع ابن زياد ومع يزيد، وبها حمى الله فاطمة الصغرى بنت الحسين من السبي والتَّسَرِّي، وحَمَى الله عليًّا الأصغر زين العابدين من القتلِ، فانتشرت به ذرية الإمام الحسين، واستمرَّت في الثورة على الفساد ولا تزال، ولقبت زينب بلقب (بطلة كربلاء زينب).
رحلتها من المدينة إلى مصر ووفاتها:
وَلَمَّا أعادوها رضي الله عنها إلى المدينة المنورة بعد أن استبقَوا رأس الحسين بدمشق ليطوفوا به الآفاق إرهابًا للناس، أحسُّوا بخطرها الكبير على عَرْشِهِم، فاضطروها إلى الخروج، فَأبَتْ أن تخرج من المدينة إلا محمولة، ولكن جمهرة أهل البيت أقنعتها بالخروج، فاختارت مصر لما علمت من حب أهلها وواليها لأهل البيت.
فدخلتها في أوائل شعبان سنة 61 من الهجرة، ومعها فاطمة وسُكينة وعلي أبناء الحسين، واستقبلها أهل مصر في (بِلْبِيس) بُكَاةً معزِّين، واحتملها والي مصر (مَسْلَمَة بن مُخَلَّد الأنصاري) إلى داره بالحمراء القُصوى عند بساتين الزهري (حي السيدة الآن).
وكانت هذه المنطقة تسمى (قنطرة السباع) نسبة إلى القنطرة التي كانت على الخليج المصري وقتئذ، فأقامت بهذه الدار أقل من عام عابدة زاهدة تفقه الناس، وتفيض عليهم من أنوار النبوة وشرائف المعرفة والبركات والأمداد، حيث توفيت في مساء الأحد (15 من رجب سنة 62هـ)، ودفنت بمخدعها وحجرتها من دار (مَسْلَمَةَ) التي أصبحت قبتها في مسجدها المعروف الآن، وقد توفيت وهي على عصمة زوجها (عبد الله)، وأمَّا قصة طلاقها منه فكذب من وضع النواصب (خصوم أهل البيت)، أو هي على أحسن الأحوال وَهْمٌ واختلاط وتشويش على أهل البيت من المتمسلفة.
كان المسجد الزينبي الذي هو بيت أمير مصر مَسْلَمَةَ بن مخلَّد قائمًا على الخليج المصري عند قنطرة على الخليج كانت تسمى (قنطرة السباع)؛ لأنها كانت مُزَيَّنَةً من جوانبها بسباع منحوتة من الحجر، ولما رُدِمَ الجزء الذي عليه القنطرة من الخليج زالت القنطرة فاتَّسَعَ الشارع، وظهر مسجد السيدة بجلالِه، وتوالت التجديدات عليه، وقد أُنشئ هذا المسجد في العهد الأموي، وزاره كبار المؤرِّخِين وأصحاب الرحلات.
السيدة زينب والشيخ بخيت المفتي:
في شعبان عام (1351هـ) الموافق ديسمبر (1932م) وَجَّهَ السيد محمد توفيق الموظف بوزارة الداخلية المصرية على صفحات مجلة «الإسلام» استفتاءً إلى دار الإفتاء الرسمية بمصر، وكان مفتيها وقتئذ صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي رحمه الله، يسأل: هل دُفِنَتْ السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب بمصر أم لا؟ بسبب ما شوش به المتمسلفة النواصب.
فأجاب فضيلة المفتي رحمه الله بما ذكره علي مبارك، ثم ما ذكره الصبان، والجَبَرْتِي، والشعراني، والعدوي رحمهم الله جميعًا، ثم عرج على ما ذكره ابن الأثير، والطبري، وابن جبير، والسَّخَاوِي.
ثم خرج بأن المعوَّل عليه هو ما رواه ابن جُبَيْرٍ من أن المدفونة بمصر من الزينبات، هي: (زينب بنت يحيى بن زيد بن علي بن الحسين)، وليست (زينب بنت علي أخت الحسين) رضي الله عنهم،
ثم قال: وأمَّا قول من قال: إنَّها (زينب بنت علي) فمحمول على أنها بنتُه فعلًا، ولكن بالواسطة لا بالمباشرة، ولا شك أن في هذا المشهد بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (انتهى باختصار).
رفات جثمان السيدة زينب مدفون في مرقدها المعروف تحقيقًا:
ولكن المؤرخ الثَّبَتُ الحجة المدقق المرحوم (حسن قاسم) رد على هذه الفتوى بنفس «مجلة الإسلام» ردًّا علميًّا موثقًا محدَّدًا غير مسبوق كما سيأتي، أثبت فيه بالدليل القاطع أنَّ الضريح والمرقد الحالي المنسوب بمصر إلى (السيدة زينب بنت علي أخت الحسين رضي الله عنها) هو لها فعلًا، وأنَّ الضريح الذي قال ابن جبير وتابعه الأستاذ المفتي أنه لـ (السيدة زينب بنت يحيى بن زيد بن علي بن زين العابدين بن الحسين) موجود أيضًا بالقاهرة، ولكنه لـ (السيدة زينب بنت يحيى المتوَّج بن الحسن المُثَنَّى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب)؛ لأن يحيى بن زيد استشهد عن ثمانية عشرَ عامًا ولم يتزوج ولم ينجِب؛ فهو خطأ سببه التشابه في الاسم بين (يحيى الذي هو من أبناء الإمام الحسن)، و(يحيى الذي هو من أبناء الحسين).
وقبر زينب بنت يحيى هو قبر (العيناء فاطمة بنت قاسم) التي دُفِنَتْ مع زينب شرقي مسجد الإمام الشافعي بعيدًا جدًّا عن مشهد عَمَّتِهَا (السيدة زينب بنت علي) المعروف للمسلمين جميعًا بالقاهرة.
نصوص أدلة الأستاذ حسن قاسم:
يقول الأستاذ: إنَّ علي باشا مبارك ذكر في «خططه» أنه لم يقف على أول من أنشأ هذا المسجد الزينبي قبل القرن العاشر الهجري، وأنَّه نقل عن الرحالة (ابن جبير) ما زاره من المشاهد التي من جملتها مشهد لـ (زينب بنت الإمام يحيى بن الحسين بن علي).
ثم ذكر فضيلته أن الإمامين (الطبري وابن الأثير) كلاهما جزم باستقرار السيدة زينب رضي الله عنها في المدينة؛ فمنعًا لهذا الإيهام أقول:
أولًا: كلام محمد الكوهن الفاسي:
جاء في رحلة الفقيه الأديب الرحالة (أبو عبد الله محمد الكوهن الفاسي) التي عَمِلَهَا في أواخرِ (القرن الرابع الهجري): أنَّه دخل القاهرة في (14 من المحرم سنة 369هـ) والخليفة يومئذ (أبو النصر نزار بن المعز لدين الله أبي تميم الفاطمي)، فزار جملة من المشاهد من بينها هذا المشهد، وذكر ما عاينه من الصِّفَة التي كان عليها وقتئذ، فقال:
دخلنا مشهد (زينب بنت علي) على ما قيل لنا فوجدناه داخل دار كبير، وهو في طرفها البحري يشرف على الخليج، فنزلنا إليه بدَرَج وعاينَّا الضريح، فوجدنا عليه (دربوزًا) -يعني (دار بزين)- قيل لنا: إنه من خشب القماري فاستبعدنا ذلك، لكن شممنا منه رائحة طيبة، ورأينا بأعلى الضريح قبة بناؤها من الجص، ورأينا في صدر الحجرة ثلاثة محاريب، أطولُها الذي في الوسط، وعلى ذلك كله نقوش غاية في الإتقان، ويعلو باب الحجرة (زليخة)، قرأنا فيها بعد البسملة:﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا﴾[الجن:18]، هذا ما أمر به عبد الله ووليه أبو تميم أمير المؤمنين الإمام العزيز بالله صلوات الله تعالى عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المكرمين.
أمر بعمارة هذا المشهد على مقام السيدة الطاهرة بنت الزهراء البتول: زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله تعالى عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المكرمين... إلخ.
وهذه الرحلة من محفوظات مكتبة عارف بك بالمدينة (إذن فالضريح موجود معروف من قبل القرن الرابع قبل الفاطميين، بل من القرن الثاني كما سيأتي).
ثانيًا: كلام السَّخَاوِي:
ذكر السَّخَاوِي في كتابه «أوقاف مصر»: أن الحاكم بأمر الله أوقف على هذا المشهد (مشهد السيدة زينب ومشاهد أخرى) عدة قرى وضِياع كـ (أطفيح)، و(صُول)(2)، وغيرهما.
ثالثًا: ابن الأثير والطبري وابن عساكر وابن طولون:
الطبري وابن الأثير لمَّا ذكرا محنة (الإمام الحسين) التي شاركته فيها أخته (زينب) لم يتعرضَا لذكرِ وفاتها، وإلَّا فكانا ذكرا ما عرفناه عن ذلك، والمؤرخون الذين تعرضوا لذكر تلك بعضهم تضاربت
أقوالهم، فلم يخرجوا بنتيجة تفيد الباحث، وقليل منهم ذكروا أنَّها دخلت مصر بعد مصرع أخيها بيسير من الزمن، وأقامت بها أشهرًا ودفنت بها.
ومن هؤلاء الذين قالوا بدخولها مصر: الحافظ ابن عساكر الدمشقي مؤرخ القرن السادس الهجري، ذكر ذلك في «تاريخه الكبير» المحفوظ بالمكتبة الخالدية بدمشق، والمؤرخ ابن طولون الدمشقي في رسالة مستقلة؛ إذن فالقبر كان معروفًا قبل القرن السادس.
رابعًا: الشريف الأزورقاني:
في كتب الأنساب كـ «بحر الأنساب» للشريف الأزورقاني من علماء القرن السادس الهجري، وابن عنبة الحسني من علماء القرن الثامن الهجري، ومن تقدمهم من علماء النسب لم يذكروا أن لـ (يحيى بن زيد) الشهيد عقبًا؛ لقتله لما خرج بعد قتل أبيه بـ (الجوزجان) على عهد (نصر بن بشار) والي خرسان، وكان من أمره أن قتل بيد (مسلم بن أحون) الذي بعثه نصر المذكور في (3000) ثلاثة آلاف رجل، فقتلوه في سنة 125هـ (خمس وعشرين ومائة هجرية)، وله من العمر (18) ثمانية عشر عامًا، وانظر كتاب «الفَرْق بين الفِرَق» للبغدادي، و«المعارف» لابن قتيبة؛ إذن فزينب هذه ليست ابنته، وبينه وبينها زمن طويل.
خامسًا: نتيجة ما سبق:
فما ذكر في رحلة ابن جبير، ونقله صاحب «الخطط»، وصححه فضيلة الأستاذ كلاهما خطأ واضح؛ إذ إن زينب التي زار مشهدها ابن جبير هي زينب بنت يحيى المتوج بن الحسن المثنى بن زيد بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب،دخلت مصر سنة 193هـ ثلاث وتسعين ومائة هجرية مع عمتها نفيسة بنت الحسن الأنور العلوي أمير المدينة، ومشهدها الذي زاره ابن جبير في القرافة شرقي الشافعي، لا في هذه المنطقة الواقع بها المشهد الزينبي. (انظر: «رحلة ابن جبير» المخطوطة).
وهذا المشهد معروف بالقرافة، وهو المشهور الآن بمشهد العيناء (فاطمة بنت القاسم بن محمد المأمون بن جعفر الصادق) لدفنها به هي الأخرى مع (زينب بنت يحيى المتوَّج)، وكان إلى أواخر القرن الثاني الهجري يعرف بمشهد السيدة زينب بنت يحيى المتوَّج، وهي وأبوها وجمع من أقاربها دخلوا مصر وماتوا بها، ولهم مشاهد معروفة.
وقد وَرَدَ ذكر هذا المشهد في كثير من كتب المزارات المصرية كـ «مرشد الزوار» لموفق الدين بن عثمان، و«الكواكب السيَّارة» لابن أبي طلحة، و«تحفة الأحباب» للسخاوي، و«الكوكب السائر» للسكري، الذي هو من آخر ما ألف في المزارات المصرية، (وهذه المراجع غالبها مشهور متداول).
سادسًا: القول الفصل للعُبَيْدَلِي:
الذي قضى على هذا الخلاف الواقع فيه جمهرة المؤرخين من قرون عديدة: رسالة استنسختها من حلب بواسطة أحد أصدقائي (للعبيدلي)، الحسن بن يحيى بن جعفر(الحجة) بن عون الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب المولود سنة 124هـ بالعقيق بأرض الحجاز بقصر ابن عاصم، والمُتَوَفَّى بمكة سنة 227هـ، أسماها مؤلفها المذكور «أخبار الزينبات»(3) ذكر فيها كل من سميت (زينب) من آل البيت وغيرهم، فتَرْجَمَ لزينب هذه الكبرى وأختها الوسطى والصغرى، وذكر فيها في آخر ترجمة زينب الكبرى: أنَّها بعد أن سُيِّرت للشام، ثم للمدينة ثَارَتْ فتنة بينها وبين عمرو بن سعيد (الأشدق) والي المدينة من قِبَلِ يزيد، فاستصدر أمر يزيد بنقلها من المدينة، فنقلت منها إلى مصر، فدخلتها على (مسلمة بن مخلَّد)، وكان دخولها في أول شعبان سنة 61هـ، فأقامت بها مدة (11) أحد عشر شهرًا، ونحو عشرة أيام (من شعبان سنة 61هـ إلى رجب سنة 62هـ)، وتوفيت يوم الأحد مساءً لأربعة عشر يومًا مضت من رجب من السنة المذكورة، بموضع يقال له (الحمراء القصوى) حيث بساتين الزهري(4)؛ وإذن فهذا المشهد معروف من قبل القرن الثاني.
هذا محصل ما ذكره العبيدلي النَّسَّابَة من القرن الثالث في ترجمة السيدة زينب الكبرى بنت علي؛ إذن بقي علينا أن نتعرف ما هي هذه الخِطَّة (الحمراء القصوى) التي ذكر أنها دفنت بها، فنقول:
سابعًا: الحمراء القصوى:
إن المقريزي قد تَكَفَّلَ لنا بتعريفها، وبسط لنا ما أغنانا عن مؤنة البحث، فإذا هي هذه المنطقة الواقع بها الضريح الزينبي الآن، وليس بعد هذا البيان بيان.
وصفوة القول: أنِّي لَمَّا عثرت على هذه الرسالة المذكورة التي تعد الحجر الأساسي الذي قضى لنا على هذا الخلاف -يعني رسالة «أخبار الزينبات» للعبيدلي- والذي كَمَّمَ أفواه المتعنتين من معاصرينا؛ أدرجتها في ضمن رسالة أشتغل بوضعها الآن، أثبت فيها من مرويات موثقة بصحة دخول هذه السيدة الكريمة إلى مصر وموتها بها ودفنها بهذا المكان، وسأطبعها قريبًا -إن شاء الله تعالى- بعد تمام وضعي لها، وحينئذ لكم أن تطلبوها من صاحب هذه المجلة: رجل الفضل والأدب، نفع الله به المسلمين. [يريد مجلة الإسلام لصاحبها السيد عبد الرحمن محمد رحمه الله].
وتقبلوا -يا فضيلة الأستاذ- كلمتي هذه المتواضعة بكل هدوء وطمأنينة، وعسى أن أكون قد وفقت إلى حل مشكلة وقع فيها كثير من المؤرخين بشأن مدفن السيدة زينب رضي الله عنها.
ثامنًا: هكذا انقطع الشك باليقين:
بهذا التحقيق العلمي التاريخي الموثَّق لا يكون هناك وجه على الإطلاق للجاجة والتشكيك والاستشكال، والمعارك التي يثيرها خصوم أهل البيت تحت شعار أو آخر؛ تشكيكًا في وجود رُفَات جثمان السيدة زينب بنت علي بمرقدها المعروف بالقاهرة، وما هو إلا الغل والفتنة والحقد المرير على أهل البيت أحياءً وموتى، باسم (التوحيد) المفترَى
عليه، وباسم (السنة) المظلومة، وباسم (السلفية) المتَّهَمَة، والأمر يومئذ لله.
من أشعار السيدة زينب بنت علي:
ومما ينسب إلى السيدة زينب بنت علي رضي الله عنها من الشعر قولها للعراقيين، وهي محمولة وآل بيتها على الأقتاب إلى دمشق للقاء يزيد بعد مذبحة كربَلاء، واستشهاد الحسين، وإهانة من بقي من أهله وأحبابه:
 
ماذا تقولون إن قال النبي لكم  *  ماذا فعلتم وأنتم آخر الأممِ
بعِتْرَتِي وبأهلي بعد فرقتكم  *  منهم أسارى، ومنهم خُضِّبُوا بدمِ
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم  *  أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
 
ومما ينسب إليها بعد أن وصلت إلى مصر قولها:
 
إذا ضاقت بك الأحوال يومًا  *  فثق بالواحد الأحد العلي
ولا تجزع إذا ما ناب خطب  *  فكم للهِ من لطفٍ خفي

رضي الله عنها وعنَّا بها وبأهل البيت.

مشهدها الطاهر بالقاهرة:
كان المسجد الزينبي الذي هو بيت أمير مصر (مَسْلَمَة بن مُخَلَّد) قائمًا على الخليج المصري عند قنطرة على الخليج كانت تسمى (قنطرة السباع)؛ لأنَّها كانت مُزَيَّنَة من جوانبها بسباع منحوتة من الحجر، ولما رُدِمَ الجزء الذي عليه القنطرة من الخليج زالت القنطرة فاتَّسَعَ الشارع، وظهر مسجد السيدة بجلاله، وتوالت التجديدات عليه، وقد أُنشئ هذا المسجد في العهد الأموي، وزَارَه كبار المؤرخين وأصحاب الرحلات، كما قدمنا.
ومشهدها تِرْيَاقٌ مجرَّبٌ، ترفع فيه التوسلات إلى الله، وتستجاب فيه الدعوات، وأمَّا ما قد يكون فيه أحيانًا -كما يكون في غيره- من بعض المخالَفَات لظاهر الشرع الشريف؛ فهو من أثر الجهل الذي يخفف من سوئه حسن نية أصحابه وسلامة اعتقادهم... والحمد لله، ويجب أن تسمى الأشياء بأسمائها، فلا يُسَمَّى الجهل شركًا ولا كفرًا.
وأمَّا من ينكرون وجود قبرها بمصر فهم خصوم أهل البيت الذين يكرهون أن يحيا لهم ذِكر، أو يعرف لهم قبر، ولا اعتبار لأقوالهم على الإطلاق بعد أن ألزمناهم الحُجَّةَ التي لا تدفع بالتهريج والغل الدفين.
تجديدات الحرم الزينبي:
أنشئ في العهد الأموي، وما زال يجد الرعاية في كل عصر تجديدًا وصيانة وتوسعة؛ ففي القرن السادس الهجري (أيام الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب) أجرى في هذا المشهد عمارةً أميرُ مصر ونقيب الأشراف الزينبيين بها الشريف فخر الدين ثعلب الجعفري الزينبي صاحب البساتين المعروفة بـ (منشأة ابن ثعلب)، وهناك شارع بهذا الاسم في المنطقة، ومنشئ المدرسة الشريفية التي تعرف الآن بـ (جامع العزبي بالجودرية).
ثم في سنة 951هـ جَدَّدَهُ الأمير علي باشا الوزير، وفي عام 1170هـ جَدَّدَهُ من ماله الخاص الأمير الصالح، محب أهل البيت وخادم العلم والمساجد (عبد الرحمن كَتْخُدَا القازدغلي)، ثم بعد ذلك أنشئت مقصورة النحاس الأصفر على القبر الشريف، ثم بعد ذلك قام بتجديده (الأمير عثمان المرادي)، ولكنه لم يتم التجديد لدخول الفرنسيين مصر.
ثم بعد ذلك شرع الوزير يوسف باشا الوالي في إتمام هذه العمارة، ولكنه توفي فأوقف العمل إلى أن جاء (محمد علي) فأتَمَّ عمارته، ثم جاء من بعده (عباس الأول) فوضع تصميم توسعة المسجد وتجديده، وجاء من بعده (سعيد) فنَفَّذَ التصميم، ثم بعد ذلك قام (الخديوي توفيق) بإصلاح القبر والمنارة، وتجديد الجدران والقبلة، ثم وسعته الحكومة المصرية توسعة أولى عام 1940م، ثم التوسعة الثانية عام 1969م، وأنشأت محرابًا جديدًا وميضأة منفصلة، كما أهدت طائفة البهرة مقصورة من الفضة المطعمة بالأحجار الكريمة للقبر الشريف من أفخم وأفخر المصنوعات.
 

(1)   وقد بسط الإمام السيوطي القول في ذرية السيدة زينب رضي الله عنها في رسالته «العجاجة الزرنبية في السلالة الزينبية»، وقد حكى فيها الإجماع على أن ذرية السيدة «زينب» رضي الله عنها من الأشراف آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ اعتمادًا على حديث مسلم.
(2)   أطفيح: مركز من مراكز محافظة الجيزة الآن، و(صُول) قرية تابعة لهذا المركز، وتقعان شرق نهر النيل، وهما غنيتان بالزراعات المتعددة.    
(3)   قامت لجنة نشر العلوم والمعارف الإسلامية بالقاهرة بطبع هذه الرسالة «أخبار الزينبات» للعبيدلي، وذلك سنة (1353هـ/1935م) عن الأصل المرسل إلى الأستاذ حسن قاسم من الشام.
(4)   هناك شارع باسم (شارع جنان الزهري) أمام مجلة المصور الآن بمنطقة السيدة.
 
من كتاب "مراقد أهل البيت في القاهرة" لفضيلة الشيخ محمد زكي إبراهيم

التقييم الحالي
بناء على 99 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث