الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فكثيرا ما يسمع المسلم عن أن فعلا ما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة ولا سلف الأمة، وطالما أن لم يرد فإن هذا الفعل مردود، حرام فعله على كل مسلم؛ لأن بالنبي لم يفعله أو لم يقله.
إن الادِّعاء بأنَّ فعـل رسـول الله صلى الله عليه وسلم يمكـن حصره -ادعـاءٌ باطـلٌ، كذلك القول بأنَّ كل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام وأنه يحصر، ومن ادَّعـى ذلك فعليه الإثبات.
وكذلك الحال في الادِّعاء بأنَّ هذا مما لم يفعله الصحابة والتابعون، أو لم يفعله أحد من الأئمة أو يأمر به؛ فنقـل الترك يستحيل عقـلًا وعـرفًا، وكم من مدَّعٍ يصرح بأنَّ السلف تركوا، فتجد الفعل صريحًا لأعيانهم مع أنَّ لفظ السلف لـم يُـحَدَّد له مفهوم يعتمد عليــه، فــإذا كان كــل من ســبقنا مـن الأمــة سـلـف لنــا، فالأمــر متســع لا يجعل لهذا اللفظ خصوصية، وإذا كان المقصود به الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ثم صحابته رضوان الله عليهم؛ فالصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، فالمتبع لأي منهم متبعٌ للسلف على هذا العُرْف، وكثيرٌ من الذي يدعيه بعضنا ويؤاخذنا به مخالفٌ لهديــه صلى الله عليه وسلم ولهــدي أصحابه -رضوان الله عليهم- ومنهجهم؛ فلا أحد منا يدَّعي أنَّ الصحابة كفَّر بعضهم بعضًا عند الاختلاف أو بدَّعه أو فسَّقه، أو بحث عن تصنيف له ما أنزل الله به من سلطان.
وإما أن يكون من أُقَـلِّدُهُ وأَتَّـبِـعُ قَولَه سلفيًّا -تقدَّم زمنه أو تأخَّر- مدَّعيًا دون دليل أنَّ منهجه هو نفس المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فكل المذاهب والفرق مدعية ذلك، وليس بعضها أولى بذلك من بعض بهذا المنهج المدَّعى، إلا أن يكـون بين جمهـور الأمـة اتفاق عليـه، وهو مـا لـم يحدث حتى اليوم ولن يحدث.
ونقول إنَّ الحق الذي نراه هو الذي عليه جمهور الأمة «أهل السنة والجماعة»، والذي يشمل اتِّباع المذاهب الأربعة المنتسبين في الفروع للأئمة: «أبي حنيفة النُّعْمان، ومالك بن أنس الأَصْبَحِي، ومحمد بن إدريس الشَّافِعِي، وأحمـــد بن حنبـل الشَّيبَاني»، وفي الأصول: «للإمــام أبي الحســن الأَشْـعَـرِي، والإمام أبي منصور الـمَـاتُرِيدِي».
فليس لأحد أن يحتكر الحق، فيقول: إنَّ الحق هو ما أقول، وما أنقل عن من أقلِّد، وإنَّ سائر علماء الأمة وأتباعهم أهل ضلالٍ يبتدعون، وقد يبلغ الأمر به إلى أن يجعلهم مشركين كفارًا. نسأل الله السلامة.
وقبل أن نتطرق إلى الترك وما ينتج عنه، لا بد أولا أن نتعرف على الحكم الشرعي، ما هو؟ وما هي أنواع هذا الحكم الذي يدور عليه جل أحكام الفقه الإسلامي؟
الحكم الشرعيهو خطاب الله المتعلّق بفعل المكلّف، وأنواعه خمسة:
1-الواجب أو الفرض: وهو مايثاب فاعله ويعاقب تاركه مثل الصّلاة والزكاة وصوم رمضان وبر الوالدين.
2-الحرام:وهو ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه ، مثل الربا والزنا والعقوق والخمر.
3-المندوب:وهو مايثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، مثل نوافل الصّلاة.
4-المكروه:وهومايثاب تاركه ولا عقاب على فاعله، مثل صلاة النافلة بعد صلاة الصبح أو العصر.
5-المباح أو الحلال:وهو ماليس في فعله ولا تركه ثواب ولا عقاب مثل أكل الطيّبات والتجارة.
هذه أنواع الحكم التي يدور عليها الفقه الإسلامي، ولا يجوز لمجتهد صحابياً كان أو غيره أن يصدر حكماً من هذه الأحكام إلاّ بدليل من الأدلّة السّابقة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة لا يحتاج إلى بيان.
المقصود بالترك:
أن يترك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً لم يفعله أو يتركه السّلف الصالح من غير أن يأتي حديث أو أثر بالنّهي عن ذلك الشيء المتروك يقتضي تحريمه أو كراهته.
وقد أكثر الاستدلال به كثير من المتأخرين على تحريم أشياء أو ذمّـها ، وأفرط في استعماله بعض المتنطّعين المتزمّـتين ورأيت ابن تيمية استدل به واعتمده في مواضع سيأتي الكلام على بعضها بحول الله.
أنواع الترك:
إذا ترك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً فيحتمل وجوهاً غير التحريم:
1-أن يكون تركه عادة:قدّم إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ضب مشوي فمد يده الشريفة ليأكل منه فقيل:إنّه ضب، فأمسك عنه ، فسئل: أحرام هو؟ فقال: لا ولكنّه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه!...والحديث في الصّحيحين وهو يدل على أمرين:
أحدهما:أنّ تركه للشيء ولو بعد الإقبال عليه لا يدل على تحريمه.
والآخر:أنّ استقذار الشيء لا يدل على تحريمه أيضاً.
2-أن يكون تركه نسياناً، سها صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصّلاة فترك منها شيئاً فسئل:هل حدث في الصّلاة شيء؟ فقال: ((إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّـروني)).
3-أن يكون تركه مخافة أن يفرض على أمته،كتركه صلاة التراويح حين اجتمع الصّحابة ليصلّوها معه.
4-أن يكون تركه لعدم تفكيره فيه، ولم يخطر على باله،كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يخطب الجمعة إلى جذع نخلة ولم يفكر في عمل كرسي يقوم عليه ساعة الخطبة، فلمّا اقترح عليه عمل منبر يخطب عليه وافق وأقره لأنّه أبلغ في الإسماع.
واقترح الصحابة أن يبنوا له دكّة من طين يجلس عليها ليعرفه الوافد الغريب، فوافقهم ولم يفكر فيها من قبل نفسه.
5-أن يكون تركه لدخوله في عموم آيات أو أحاديث،كتركه صلاة الضحى وكثيراً من المندوبات لأنّها مشمولة لقول الله تعالى((وافعلوا الخير لعلّـكم تفلحون)) وأمثال ذلك كثـيرة.
6-أن يكون تركه خشية تغيّر قلوب الصحابة أو بعضهم: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعائشة: ((لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السّلام فإنّ قريشاً استقصرت بناءه)).
فترك صلّى الله عليه وآله وسلّم نقض البيت وإعادة بنائه حفظاً لقلوب أصحابه القريبـي العهد بالإسلام من أهل مكّة...ويحتمل تركه صلّى الله عليه وآله وسلّم وجوهاً أخرى تعلم من تتبع كتب السنّة، ولم يأت في حديث ولا أثر تصريح بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا ترك شيئاً كان حراماً أو مكروهاً.
* الترك من غير بيان كالمسكوت:
اعلم أنَّه إذا ترك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ولم يبين لماذا تركه، فإنَّه أشبه ما يكون بالمسكوت عنه، الذي جعله عفوًا في قوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ، فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا»، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ؛ فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللهَ لَـمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا» ثم تلا قوله تعالى:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
وتحريم ما سكت الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم هو إعنات للخلق لا ضرورة له، وإلزام لهم بحُكْمٍ يشرعه الله، وهو فوق ذلك أشبه ما يكون بالتحريم بالهوى، الذي عابه الله على أهل الجاهلية في قوله:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
وقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
ولو ذهبنا نُحرِّم كل ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرَّمنا كثيرًا من الذي نفعله اليوم، سواء عادة أم عبادة، ولكانت صلاة التراويح التي تُصلَّى في المساجد اليوم على هذه الصورة المعهودة في بلادنا -وخاصة في الحرمين الشريفين- حرامًا؛ فهي مِنَ الذي ترك فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك صلاة القيام في رمضان آخر الليل، ولكان دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح أو القيام حرامًا؛ فهو مِنَ الذي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم ، على طريقة من يقول إنَّ الترك دليل تحريم لكل ما لم يفعل السلف، ولكان ما نَطْعم اليوم من هذه الأطعمة المتنوعة حرامًا، ولَـلَحِـقَ به ما نَلْبس ونَسْكن، وكثير غيره من الأنظمة في شتى المجالات، فقضية الترك لا تنتهي عند حدٍّ.
فالترك وحده إن لم يصحبه نص على أنّ المتروك محظور لا يكون حجّة في ذلك بل غايته أن يفيد أنّ ترك ذلك الفعل مشروع، وإمّـا أنّ ذلك الفعل المتروك يكون محظوراً فهذا لا يستفاد من الترك وحده، وإنمـا يستفاد من دليل يدل عليه.
والذين يقولون إنَّ الترك دليل على التحريم على خطأ؛ لأنَّـهم لو راجعوا أنفسهم لوجدوا أنَّـهم قد أتوا كثيرًا مما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته -رضوان الله عليهم- وهم لا يشعرون.
* ما يقتضيه الترك:
اعلم أنَّه إذا كان الترك لا يقتضي تحريمًا فإنَّه قد يقتضي جواز المتروك، فالحديث الذي رواه أبو داود والنَّسَائي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الْوُضُوءِ مِـمَّا مَسَّتِ النَّارُ»، فإنَّ الدَّلالة فيه واضحة؛ لأنَّ الوضوء مما طُبِخَ بالنار -لو كان واجبًا- ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله التِّلِمْسَانِيُّ -من المالكية-: «ويُلْحَق بالفعل في الدلالة الترك؛ فإنَّه كما يستدل بفعله صلى الله عليه وسلم على عدم التحريم يستدل بتركه على عدم الوجوب، وهذا كاحتجاج أصحابنا على عدم وجوب الوضوء مما مسَّت النار.
روي أنَّه صلى الله عليه وسلم أكــل كتــف شــاة ولـم يتوضـأ. وكاحتجاجهـم عـلـى أنَّ الحجامـة لا تنقض الوضوء، بما روي أنه احتجم ولم يتوضأ وصلى».
ومن هنا نشأت قاعدة الأصوليين: «جائز الترك ليس بواجب».
أمَّا مسألة تقسيم بعض العلماء لترك النبي صلى الله عليه وسلم لأي أمر، فعلى نوعين:
الأول: إنَّ الترك الذي لم يوجد ما يقتضيه في عهده صلى الله عليه وسلم ثم حدث له مقتضى بعده جائز على الأصل، ويضربوا لذلك المثال بكل ما أُخِذَ به بعد عهده صلى الله عليه وسلم ؛ لوجود مقتضًى له، كجمع القرآن، وكتابة المصحف خشية ضياع آيات الكتاب العظيم، خاصة بعد مقتل القُرَّاء في حروب الرِّدَّة.
والنوع الثاني: هو ما تركه صلى الله عليه وسلم مع وجود مقتضًى له في عهده، وضرب له الشيخ ابن تيميَّـة رحمه الله بما أحدثه بعض الأمراء من أذان يرفع لصلاة العيدين، وقال: فمثل هذا الفعل تركه النَّبي صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضيًا له، ممَّا يمكن أن يستدل به من ابتدعه؛ لكونه ذكرًا ودعاء للخلق إلى عبادة الله، وبالقياس على أذان الجمعة.
وهذه المسألة بنى القول بها من رأى أنَّ الترك دليل تحريم؛ بناءً على مسألة أخرى هي عدم جواز السكوت في مقام البيان.
والحقيقة أنَّ هذه المسألة لا بد أن تضم إليها مسألة أخرى، هي أنَّ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر؛ فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لـمـَّا بيَّن في الحديث ما يشرع عمله في العيديــن -مــع تقـريـره الأذان والإقامــة في ســائـر الفــروض وفي الجمعــة بالــذات- دلَّ ذلك أنَّ ما ذكره يفيد الحصر فلا يزاد عليه، ولا يقال إنَّ التحريم مكتَسَبٌ من الترك فقط.
ثم إنَّ القياس في العبادات -كما يرى الجمهور- لا يستعمل، فيظل الترك مقتضيًا الجواز وعدم الوجوب لا التحريم، وهو الذي نختاره مع من اختاره من العلماء؛ لنرتفع في مقام الاختلاف عن التعجل في الحكم على المخالف بالعظائم، من: «بدعة، وفسق، وتشريك»، فيحدث الشَّرْخُ ويتَّسع بين المسلمين مما يضرُّ بهم وبمجتمعاتهم.
فإذا كان المحتفلون اليوم بالمناسبات -سواء أسميناها دينية أم تاريخية، كالمولد النبوي والهجرة والإسراء، وسواها- هم غالب جمهور المسلمين في مختلف أقطارهم؛ فإنَّ ذلك يعني أنهم ارتكبوا محرمًا بجعلهم مبتدعين يهجرون ويجتنبون، وتتصاعد لهجة الدَّاعين بذمهم حتى لا يبقى بينهم وبين هؤلاء صلة لأمر هو في أصله ممَّا يسوغ فيه الاختلاف، وهو نتيجة اجتهاد فيما لا نص فيه، فللمجتهد فيه أجران إن أصاب، وهما: أجر الاجتهاد، ثم الإصابة، أو أن يكون للمجتهد أجرٌ واحدٌ إن أخطأ؛ أي إنَّه مرفوع عن الإثم في كل حال.